عادل علي جودة
أقصد ذاك الشاب الذي وهب روحه لتلك الحسناء؛ الأرض التي احتضنته ووهبته كل حبها، ذاك الشاب الفارع الطول، ذو العينين السوداوين، والشعر الأسود الثائر، والجسد الحي النابض بالرجولة الذي لم تصرفه بنات القرية كلهن عن حبه لأرضه وعشقه لها.
ذاك الشاب الذي ألهب قلوب الصبايا بوسامته وخصاله النبيلة، فكانت ترتبك عيونهن حينما يستدرن ليجدن قده الفارع الممشوق أمامهن، إلا أن عينيه لم تهبا نظراته الدافئة لوجهٍ غير وجه محبوبته فلسطين؛ فلسطين الأرض، والشعب، والتاريخ، والمقدسات، والقضية التي لم تزل ضائعة تائهة.
ذاك الشاب الذي استشعر سَوءةَ الصمت على اغتصاب الأرض وانتهاك الحرمات، ذاك الشاب الذي شهد إحدى العصابات الصهيونية تشن هجومًا على قريته والناس نيام فأحدثوا فيها الفساد وقتلوا ودمروا، وعلى إثر ذلك استشهد ثلاثة شبان، فترك عمله وغاب خمسة أيام، ثم عاد في ظلمة الليل؛ كي لا يراه أحد وهو يحمل خمس بواريد (بنادق) بدائية الصنع اشتراها بما استطاع توفيره من أجرته في محل النجارة الذي يملكه أبو حسن.
بعد شهر عاودت العصابات اقتحام القرية، إلا أن ذاك البطل كان قد وزع تلك البواريد على الأشداء من شباب القرية، فكانت المفاجأة التي لم يتوقعها المعتدون الذين فروا مدبرين متوعدين بالانتقام بعد مواجهة دامية سقط لهم فيها ستة قتلى.
في اليوم التالي، عمّت الفرحة أهل القرية، ولاسيما النسوة اللواتي رُحْن يبِعن ما يملِكن من الذهب والمجوهرات لشراء المزيد من البواريد. وبعد أيام قليلة عادت العصابات الصهيونية ليلًا للأخذ بالثأر. فاندلعت معركة كبيرة في كروم التفاح، استشهد فيها عدد كبير من أبناء القرية، مقابل عدد أكبر من أفراد العصابات. ولما اندحر المعتدون يجرون أذيال الهزيمة قام أهل القرية بحصر شهدائهم والتعرف عليهم، فلم يجدوا «ذاك الشاب» بينهم، كما لم يكن من بين الأحياء.
وهكذا اختفى «ذاك الشاب»، فأجمع أهل القرية على قوته وجرأته وهو يقاتل المعتدين بشراسة، حتى صرع منهم أكثر من عشرين صهونيًّا، لقد كان يستخدم بندقيتين في آن واحد، وشاهدوه وهو يحمل المصابَين عمار وجهاد من ساحة القتال، وينقذ آخرين والرصاص من فوقه كزخ المطر، ثم بعد انسحاب الصهاينة لم يظهر له أثر.
لقد غاب
حمل أوجاعه بصمت
ورحل دونما وداع
مضَى حيث يكون أو لا يكون
غادر وفي يقينه أنه لن يعود
ولا يدري أنه أبقى
بصمة خالدة في سويداء القلوب
بصمة نقشت معالمها على كل جدار
على الرمال وعبر أمواج البحار
على ألواح الصبّار
وفي حبات العيون
على شفاه الورود
وعبر أنغام الطيور
لقد غاب جسدًا
تاركًا دمعةً
تلسع الخدود
تحكي بأحبار الوريد روايةً
تروي تراب الأرض
تسكن الأرواح
تكتب عنوان المجد على سبورة التاريخ
واليوم - أنا عادل؛ كاتب هذه السطور - أراه طيفًا متجددًا يصنع المستحيل.
أراه تحت الأرض وفوق الأرض على امتداد «قطاع غزة» الثائر العصي الأبي؛ أراه يُحلق عاليًا
لكنني أيضًا أراه حزينًا دامعًا على ما أصاب «غزة» من قتل، وتشريد، وتدمير، وحصار، وتجويع، وأراه قلبًا باكيًا على ما أصاب بني جلدتنا، وذوي القربى من ضعف، وعجز، وقلة حيلة، وهوان.
وهأنذا أسمعه صرخةً لاذعة تعاتب فاقدي البصر والبصيرة وضعاف النفوس المتآمرين، والمخذلين، والساكتين، والمنقسمين، وذوي الأطماع المريضة المحتكرين والمنتهزين، قائلًا: أنا «ظريف الطول» ووا أسفاه عليكم كم أنتم لاهون ومُغيبون، ووا حزناه عليكم كم أنكم في القريب لنادمون.
وأراه خاشعًا يرفع كفَّيْهِ بالدعاء لغزة ولشعبها؛ اللهم اغْنِهم بفضلك عمّن سواك، اللهم أغثهم، وفرّج عنهم، وكن لهم ناصرًا ومعينًا، يا رب العالمين.
** **
- كاتب فلسطيني