علي حسن حسون
بين الفينة والأخرى، يشدّني الحنين ويأخذني الشوق إلى عالم الطفولة الجميل، حيث كنت أقضي أوقاتًا ممتعة أمام شاشة التلفاز أتابع بشغف تلك الأفلام والمسلسلات الكرتونية القديمة التي لا تزال متربعة على عرش الذكريات النقية. أهرب من ضجيج الحياة ومشاغلها إلى لحظات بريئة، تتعالى فيها الضحكات بشكل عفوي عندما أُشاهد مجددًا المسلسل الشهير توم آند جيري، بما يحمله من مواقف كوميدية ساخرة لا تمل، أو حين أغوص في أجواء المباريات التنافسية الحماسية التي لا تنتهي في مسلسل الكابتن ماجد، ذلك البطل الذي ألهمنا روح الإصرار وعدم الاستسلام، وفي أحيان أخرى أجد نفسي متشوقًا لمغامرات عدنان ولينا وهايدي وفلونة وغيرهم ممن شكلوا وجدان جيل بأكمله.
لقد كانت تلك الأعمال الكرتونية، ومعظمها من إنتاج اليابان، أكثر من مجرد تسلية، فقد تركت أثرًا عميقًا في نفوسنا، ورسخت في ذاكرتنا حتى هذا اليوم، لا سيما بعد أن تم دبلجتها إلى اللغة العربية بصوت مبدعين عرب جعلوا منها جزءًا لا يتجزأ من ثقافتنا البصرية في مرحلة الطفولة. إنها لم تكن مجرد رسوم متحركة، بل كانت نوافذ مفتوحة على عوالم القيم، والمبادئ، والصداقة، والخيال، والطموح، وهو ما نفتقده في كثير من محتوى اليوم.
ومن هنا تأتي أهمية وقيمة أفلام الكرتون في تشكيل وعي الطفل وتنمية مداركه ومهاراته. فهي ليست مجرد وسيلة ترفيه، بل أداة تعليمية مؤثرة وجذابة قادرة على غرس السلوكيات الإيجابية والقيم النبيلة في نفوس الأطفال، خاصة في المراحل العمرية المبكرة، التي تُعد من أكثر الفترات قابلية للتأثر بما يُعرض ويُقال.
ومع التطور التقني والانفجار الرقمي، ظهرت العديد من الشركات العالمية المتخصصة في صناعة الرسوم المتحركة، واحتدمت المنافسة في تقديم محتوى بصري موجه للأطفال عبر منصات متعددة، لكن المؤسف في الأمر أن الكثير من تلك الأعمال بات يحمل في طياته رسائل وأفكارًا تخالف الفطرة الإنسانية السليمة وتتنافى مع تعاليم ديننا الإسلامي وقيمنا الاجتماعية الراسخة. ولعل من أبرز تلك التوجهات ما يُروج له بشكل مفضوح من دعم للمثليّة والانحرافات الفكرية والسلوكية، وتقديمها ضمن سياقات ظاهرها البراءة وباطنها الانحلال، ما يشكّل خطرًا حقيقيًا على تنشئة أطفالنا وعلى نسيجنا القيمي.
وفي المقابل، وعلى منصة «اليوتيوب» تحديدًا، نجد سيلًا من المحتويات الهابطة التي تقدمها بعض «العائلات العربية» في قالب ترفيهي ظاهري، حيث توثق تفاصيل حياتها اليومية ومغامراتها المصطنعة بمحتوى ضعيف وسلوكيات خاطئة، كل ذلك بغرض جلب أكبر عدد ممكن من المشاهدين - وغالبيتهم دون سن العاشرة - وتحقيق الأرباح من الإعلانات التجارية. من هذا المنطلق، فإن ما نحن بأمسّ الحاجة إليه اليوم هو إطلاق مبادرات وطنية وشراكات استراتيجية لإنتاج أفلام ومسلسلات كرتونية عربية تعكس واقعنا، وتُعبّر عن مبادئنا الأصيلة، وتُرسّخ في نفوس أطفالنا القيم السامية، وتُبرز ملامح هويتنا الإسلامية والوطنية، وتُعرّفهم بتراثهم الغني، وشخصياتهم التاريخية، وأبطالهم الحقيقيين، بطريقة مشوقة وجذابة ومواكبة لأحدث التقنيات والأساليب في مجال صناعة الرسوم المتحركة.
نريد محتوى يعزز مفهوم الانتماء للوطن، ويربط الطفل بثقافته ولغته وتاريخه، ويزرع في داخله روح الإبداع، ويغذي خياله، ويحثّه على التفكير النقدي والمبادرة، ويُعزز مفاهيم الاحترام، والأخلاق، والعمل الجماعي، والمثابرة، والنجاح. نحتاج إلى أعمال تُحاكي عصر الطفل الحديث، وتستثمر طاقاته وتوجه اهتماماته نحو ما يبني شخصيته ويرفع من وعيه.
باختصار، نحن بحاجة إلى ثورة ثقافية في مجال المحتوى الكرتوني العربي، تُعيد الاعتبار لهذا الفن النبيل وتُسخّره ليكون أداة بناء لا هدم، ونقطة انطلاق نحو جيل أكثر وعيًا، أكثر ارتباطًا بهويته، وأكثر استعدادًا لصناعة المستقبل.