د. عيد بن مسعود الجهني
عند الكتابة عن الأمن القومي العربي لابد أن تعود بنا الذاكرة إلى عام 1948عام تأسيس إسرائيل على أرض فلسطين وما أن تأسست حتى بادرت في تلك الفترة من التاريخ العربي وأمنه القومي التي تمثل أعلى درجات تماسك الدول العربية، فالعدوان الثلاثي على مصر (إسرائيل، فرنسا، بريطانيا)، خرج من رحمه (قوة) العرب آنذاك رغم أن بعض الدول العربية لم تنفك بعد من عقدة الاستعمار (اللعين) لتنال استقلالها.
ذلك التضامن العربي أجهض العدوان الذي خططت له الدولة العبرية رغم أن عمرها آنذاك لا يتجاوز السبع سنوات، ويكتب التاريخ أن بلاد الحرمين الشريفين وقفت صامدة مع مصر ضد العدوان، بل إنها قطعت علاقتها الدبلوماسية بفرنسا وبريطانيا ولم تعد علاقاتها معها إلا بعد إعادة مصر لعلاقاتها مع الدولتين.
الأمن القومي العربي استمر متماسكا، لكنه صحي على دوي النكسة عام 1967م، فإسرائيل لم تتوقف عن عدوانيتها (البغيضة) فشنت في ذلك العام عدوانها الكبير على مصر، وكأن مؤتمر الخرطوم قمة في حياة الأمن القومي العربي، ومرة أخرى برز دور السعودية الذي اعتبر كلمة الرئيس عبد الناصر هي بيان المؤتمر وقدمت المملكة دعما ماليا كبيرا لدعم مصر وجيشها، رغم محدودية دخل السعودية من النفط في تلك الفترة فسعره كان يحوم ما بين 1.8 و2 دولار للبرميل واستمر الدعم السعودي خلال حرب الاستنزاف.
فالحربان مثلتا قاعدة قوية للأمن القومي العربي، واستقرت على تلك الحال لتبلغ ذروتها في حرب رمضان المبارك/ أكتوبر 1973، ليمثل التضامن السعودي - المصري القاعدة الأساسية للنصر في تلك الحرب التي ضربت عصفورين بحجر.. كسر عظم إسرائيل التي طالما صرح قادتها أنه لا يكسر، ناهيك عن أن حظر تصدير النفط العربي الذي قادته المملكة ضخ الدماء في عروق أسعار النفط ليسجل تاريخ الذهب الأسود أول ارتفاع في أسعاره.
لكن مع طلوع فجر معركة عام 1973 بلغت أهمية الأوبك (الثريا) بعد أن كانت عند ميلادها في الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن المنصرم لم تلق الاهتمام من الدول الصناعية المستهلك الرئيس للنفط وفي مقدمتها آنذاك الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا وحتى في الصين والهند وغيرهما من الدول، ولذا بقي نفوذ شركات النفط الكبرى على مدى اثني عشر عاماً، (لكن دوام الحال من المحال) كما يقولون، جاء قرار المملكة التاريخي لإحياء الأوبك لتصبح أسداً مكشراً عن أنيابه في سوق النفط الدولية، لتنطلق سفينتها لتحديد توجهات الإنتاج والأسعار إلى حد كبير في سوق النفط الدولية، بعد أن قادت المملكة استعمال سلاح النفط بقطعه عن الدول التي ساندت إسرائيل في حرب 1973.
وفي خضم عنفوان معركة سلاح النفط وحرب أكتوبر حطت طائرة مبعوث الرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون وزير الخارجية السابق هنري كيسنجر في مطار جدة الذي جاء مسرعاً لمقابلة الملك فيصل محاولاً إثناءه عن قرار قطع إمدادات البترول عن دول الغرب.
وقد وصف كيسنجر الحوار الذي دار مع الملك فيصل في مذكراته قائلاً إنه عندما التقى بالملك فيصل في جدّة في محاولة لإثنائه عن وقف ضخّ البترول، رآه متجهماً، فأراد أن يستفتح الحديث معه بمداعبة فقال: (إن طائرتي تقف هامدةً في المطار بسبب نفاد الوقود، فهل تأمرون جلالتكم بتموينها، وأنا مستعدٌ للدفع بالأسعار الحرة؟!).
وإذا كان الملك فيصل -رحمه الله- رغم إلحاح كيسنجر ورئيسه نيكسون لم يتزحزح عن موقفه بشأن معركة النفط وأبقى على سريان قرار المملكة الشهير دعماً للحق، بل زاد من دعمه العسكري والمالي واللوجستي لجبهتي القتال في كل من مصر وسوريا، مما جعل السادات يطلق عليه لقب بطل المعركة التي زعزعت قوى العدو وقهرت كبرياءه الذي كان يعلن أنه عصي على الهزيمة.
وقد بقي العرب يتفقون في تضامنهم ضد العدو الإسرائيلي الذي احتل فلسطين وأجزاء من ديارهم، وهم يعيشون تلك الفترة من التاريخ، حدثت ثورة الخميني الذي نادى بتصدير ثورته إلى الدول المجاورة، وقد شعرت العراق بالخطر وكانت حرب السنوات الثماني بين البلدين، ولأن العرب أرادوا دعم أمنهم واستقرارهم لم يتأخروا عن دعم العراق في تلك الحرب، بل إن المملكة كانت الأكبر في دعم ذلك البلد وبلغ الدعم المالي لوحده أكثر من 29 مليار دولار.
وما أن انتهت تلك الحرب المدمرة حتى شعر بعض العرب بالارتياح ظانين أن شرها قد انتهى وأن العرب قد ضمنوا أن أمنهم القومي حي يرزق ويزداد قوة.
لكن حدث أمر جلل، إن غزو العراق لدولة الكويت الذي يعد نكسة عربية كبيرة للأمن القومي العربي، فالتاريخ يقول إن الثاني من أغسطس 1990 عندما احتلت العراق دولة الكويت يمثل يوماً أسود في تاريخ الأمن القومي العربي الذي تحطم كاملاً على صخرة ذلك العدوان الرهيب الذي أعقبه انقسام العرب في مؤتمر القاهرة الذي أيد بعضهم عدوان العراق.
لكن المملكة كقيادة مسؤولة عن وطن وشعب حسمت الموقف فقد كانت اللحظة تاريخية وكان الظرف دقيقاً، وكأن قرار التحرير السعودي الذي اتخذه الملك فهد بن عبد العزيز -رحمه الله - تاريخياً وتكون تحالفاً قوياً أطاح بالقوة الغازية وشمت الكويت رائحة التحرير.
والقرار السعودي التاريخي يؤكد أن امتلاك القوة أبلغ وسيلة للحد من استخدام القوة المضادة.. فلا يفل الحديد إلا الحديد ــ خصوصاً في الممارسات الدولية، فالقوة ضرورة حتمية لحماية الحق تفرضها ظروف المتغيرات الدولية، وبذا نجد أن مبدأ (القوة تحد القوة) لا يزال سائداً في الفكر السياسي الدولي رغم المواثيق الدولية التي تدعو إلى منع استخدام القوة في العلاقات الدولية إلا أن الواقع يقول إن القوة أنجع وسيلة وأمضى سبيل وعنصر جوهري لوجود الدولة.
ولا شك أن الموقف السعودي قيادة وشعباً مع الشقيقة دولة قطر التي تعرضت قاعدة (العديد) لهجوم صاروخي إيراني يمثل تعديا وانتهاكا صارخا على سيادة دولة قطر الشقيقة وضد القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة والأعراف الدولية.
لهذا ودعماً للأمن القومي العربي كان الموقف السعودي القوي ضد ذلك الاعتداء على الشقيقة دولة قطر والوقوف إلى جانبها كدولة مسؤولة عن الدفاع عن دول المجلس والدولة العربية والإسلامية الشقيقة لدعم السلام العالمي.
لذا فإن رؤية 2030 أكدت (بقوة) على أن امتلاك القوة هدف رئيس وتوطين ما يزيد على (50) في المئة من الإنفاق العسكري، لتنقل الرؤية البلاد من (2) في المئة من الإنفاق العسكري الذي ينتج محلياً إلى رقم كبير (50) في المئة ينتج داخل الوطن.
لذا فإن الرؤية توضح أن امتلاك القوة أبلغ وسيلة للحد من استخدام القوة المضادة.. فلا يفل الحديد إلا الحديد ــ خصوصا في الممارسات الدولية، فالقوة ضرورة حتمية لحماية الحق تفرضها ظروف المتغيرات الدولية، وبذا نجد أن مبدأ «القوة تحد القوة» لا يزال سائداً في الفكر السياسي الدولي رغم المواثيق الدولية التي تدعو إلى منع استخدام القوة في العلاقات الدولية إلا أن الواقع يقول إن القوة أنجع وسيلة وأمضى سبيل وعنصر جوهري لوجود الدولة.
ولا توجد سياسة وعلاقات دولية لا تحتوي بين طياتها على القوة، و(القوة) رغم أنها قد تستخدم في قهر الآخرين والبطش بهم، إلا أنها شرط ضروري من شروط الوجود، فهي عنصر أساسي لتحافظ الدولة على نفسها وسيادتها، كما أنها الوسيلة الوحيدة التي تمكنها من تحقيق أهدافها، فإذا افتقرت إلى القوة جار عليها الأقوياء وداسوا على مبادئها وأهدافها وفقدت استقلالها وكرامتها وهيبتها.
وبين الأمس واليوم في تاريخ الأمن القومي العربي أحداث جسام، فإذا كان القرن المنصرم قد شهد تماسك العرب إلى حد كبير حتى تحرير الكويت رغم أن بعضهم غرد خارج السرب مؤيدا الغزو الغادر، لكن النتائج كانت تاريخية إلى حد كبير فالأمة العربية في حاضرنا المعاصر تشهد بعض دولها تغيرات جذرية في نظمها السياسية قد تغير وجه مستقبلها وتترك أثرها السلبي على الأمن القومي المهتز أصلا.
والله ولي التوفيق،،،
** **
- رئيس مركز الخليج العربي لدراسات واستشارات الطاقة