أ.د.عبد الله بن سليم الرشيد
في الثالث عشر من ذي الحجة 1446هـ طوى الموت الأخَ العزيز خالد بن عبدالعزيز الدخيل الفهيد (1394-1446هـ) الذي مرّ بالدنيا مرور النسيم، وخطَر بها مثلما يخطرُ طيفُ الخيال، وخرج منها مثلما يخرج الماء من فيّ السقاء.
عرفتُه طالبًا في كلية اللغة العربية قبل نحو ثلث قرن، ثم حَظِيتُ به زميلًا، وطَوال معرفتي به لم يكدّرْ صفوًا، ولم يغامرْ بكلمة عوراء، وكان مِن خيرِ مَن عرفتُ خلقًا وأدبًا.
في خالد الدخيل خصلة عزيزة، إيثار الصمت على الكلام، لا عجزًا، بل اختيارًا. يتحدث فتصغي إليه جوارحُك؛ ويندى به سمعُك، ويسكتُ فتقول: ليته يتكلم.
لما كنتُ رئيسًا للقسم العلمي الذي جمعنا، كنتُ أفزع إليه لإعانتي على بعض الأمور، فلم يكن إلا المجيبَ غير المتضجّر ولا المتبرّم، تطوّعًا منه.
كان سريعًا إلى داعي المروءة والنُّبل، فكانت نفسُه المطمئنة، ترضي نفسه اللوّامة، وتُعرِضُ عن دواعي النفسِ الأمّارة بالسوء، وسلْ من عرفه فلن تجد عنده إلا ذكرى مواقفِ الكرم، كرم النفس وكرم اليد.
ابتُلي أبو يزيد بورم في أحشائه، فظلَّ يغالبُ الداء، ويكتمُ الأمر، حتى أعجزَ الطبعُ التطبّع، وفاضت آثار المرض، وظلّ يهزُل عضوًا فعضوًا، وهو مقبلٌ على الحياة، موقنٌ بأن ما عند الله أبقى.
قيل له: (إن العلاج يؤخّر الوفاة فحسب)، فما زعزع ذلك صبره، ولا ألحّت به الشكوى، فكان جوابه لمن يسأل: «أبشرك أني بخير من الله، وكلّ ما عند الله خير»، وهذا نص رسالته الأخيرة إليّ قبل وفاته بعشرة أيام!
فجعني موتُه، وإن كنتُ أترقّبه كارهًا جزِعًا، بعد أن أخبرني أخوه أن وضعه حرِج، ولكنّ لليقين رجفة، وللحادث فجعة، وللأمر إذا وقع ما ليس للظنّ الطائر في أحضان الأمل.
رحم الله أبا يزيد، وجعل في ذريته خلَفًا منه، ولقّاه نَضرةً وسرورًا.
أتموتُ؟ كلّا، هل يموتُ الماءُ؟
أو يعتري عينَ الأثيرِ فَناءُ؟
يا مُقمِرًا أبقى لُبابَةَ هالةٍ
كالقَطْرِ تهزِجُ بعده الأنداءُ
ما زلتَ حيًّا في القلوبِ، كأنما
صِيغتْ لتنعتَ نُبْلَك الأسماءُ
وأقمتَ في كنَفِ الأزاهرِ نافحًا
عطرًا وزهرُك بينها استثناءُ
واخضرّ فيك من المعاني بيدرٌ
نشرتْ عليه حروفَها الأنواءُ
ولبستَ أحرفَك الملاحَ قصيدةً
هي فوقَ عنوانِ السنا طُغَراءُ
وجُبِلتَ من غيمٍ، فروحُك في الندى
سبّاحةٌ، وسماؤها سَحّاءُ
كنتَ الحريريَّ الخلالِ تُفِيضُها
ملءَ النفوسِ وطَبْعُك الوَشّاءُ
* * *
يا ابنَ الربيعِ النضْرِ لم يُلْمِمْ به
قَيظٌ، وما غشَّى نداه شتاءُ
نازلتَ داءَك بالسكينةِ باسمًا
وكتمتَه حتى استبدّ الداءُ
وقريتَه الصبرَ السخيَّ فخِلتُه
لك عاشقًا! قد تَعشَقُ الأدواءُ
وظللتَ تردعُ مقلتيك ولو بكتْ
عينٌ فمِن جَبرِ القلوبِ بكاءُ
فاخلعْ سكوتَك إن صمتَك موجعٌ
ولربما شَفَتِ المُنى الضوضاءُ
* * *
من ساقةِ المعنى أتيتُك ذاهلًا
وَجِعًا وتذهَلُ حوليَ الأشياءُ
ومعي من الأضدادِ ما لا ينقضي
فالصبحُ ليلٌ والنهارُ مساءُ
أسَفًا على ما فات من أُكرومةٍ
نِيطتْ بها نبضاتُك الخضراءُ
وعلى حديقةِ نخوةٍ ونَبالةٍ
جثمتْ على أضلاعِها صحراءُ
* * *
لو أننا نغشى الحياةَ تخيُّرًا
من زهوِها ونموتُ حين نشاءُ
لغدت لنا كبِدُ الصحاري جنّةً
وتسلّختْ من جلدِها الرمضاءُ
لكننا نمتدُّ في الموتى وإن
خَبَأتهمُ في سرِّها الغبراءُ
ولأننا نسلُ الخطايا كلما
مات امرؤٌ وُلد امرؤٌ خطّاءُ
يستاقُنا الروعُ المُخِبُّ وتلتظي
فينا هواجسُ مُرّةٌ شوهاءُ
ما نحنُ في الأيامِ غيرُ مُجاجةٍ
تُنسَى وعهد زماننا نَسّاءُ
متدحرجين إلى الفناءِ وما لنا
مَعْدًى، يُراحُ ببعضِنا ويُجاءُ
وجعُ الحقيقةِ أنها تنتابُنا
ولها بغير كَنِينِها سِيماءُ
فنغالطُ الفحوى، ويسدُرُ تيهُنا
حتى تضيقَ برُزئِنا الأرزاءُ
ما نحن في الأيامِ غيرُ هباءةٍ
مأمولُها والآملون هباءُ
ما خِلتُ آدمَ يستطيلُ بنا، ولو
بُعثتْ لَجزّتْ رأسَها حوّاءُ
* * *
يا أيها الموتى، وحرفيَ ساكتٌ
بندائِكم ومن السكوتِ نداءُ
هذا الرثاءُ -وما سمعتم نَبرَه-
أولى بأن يُرثى به الأحياءُ
اللاهثون إلى حفائرِ طينِهم
والشؤمُ ملءَ ظنونِهم مشّاءُ
نسجوا من البغضاءِ أوهنَ حُلّةٍ
سفَهًا! أتعرفُ قَدرَها البَغضاء؟
وتخبّطوا في الدامساتِ تحيُّرًا
فمتى تفارقُ خَبْطَها العشواءُ؟
* * *
يا ابنَ البياضِ، ولستُ أرثي واحدًا
إذْ في إهابِك أمّةٌ بيضاءُ
علّمتنا بالصمتِ أشعرَ منطقٍ
عذْبٍ، فمَن صمتوا هم الشعراءُ
واخترتَ أن ترِدَ النهايةَ باسمًا
والسقمُ فيه تَعِلّةٌ ودواءُ
ولَربّما سئمَ الدِّماثَ تنَعُّلٌ
وامتصّ أوجاعَ السبيلِ حَفاءُ