د. ناصر بن علي الموسى
يحظى الأشخاص ذوو الإعاقة في بلادنا الحبيبة بكل العناية والرعاية والاهتمام والدعم غير المحدود من لدن قيادتنا الحكيمة منذ أيام التأسيس الأولى حتى هذا العهد الزاهر عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وسمو ولي عهده الأمين، صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، - حفظهما الله.
وفي هذا الإطار، عملت وزارة التعليم -باختلاف مسمياتها- على تطوير التربية الخاصة، ولتحقيق ذلك وضعت في عام 1417هـ استراتيجية ترتكز على عشرة محاور، حيث نص المحور الأول منها على تفعيل دور مدارس التعليم العام في مجال تربية وتعليم الأطفال ذوي الإعاقة؛ بما يضمن تدريسهم مع أقرانهم في فصول مدارس التعليم العام، وهو ما يعرف بالدمج التربوي، وهو يتم في المملكة بطريقتين؛ طريقة الدمج الجزئي أو الدمج المكاني، ويتحقق من خلال استحداث فصول ملحقة بمدارس التعليم العام، بحيث يدرس بها التلاميذ ذوو الإعاقة، وطريقة الدمج الكلي، والذي يتم تنفيذه عن طريق إلحاق التلاميذ ذوي الإعاقة بالفصول العادية في مدارس التعليم العام، مع تزويدهم بخدمات التربية الخاصة من خلال برامج غرف المصادر، وبرامج المعلم المتجول، وبرامج المعلم المستشار.
وهذا التنوع في الخيارات التربوية بالإضافة إلى بعض الخيارات التقليدية الأخرى يلبي احتياجات التلاميذ ذوي الإعاقة على اختلافها، إذ إنهم فئات غير متجانسة، بل إن الاختلافات الفردية بينهم كبيرة جداً حتى داخل الفئة الواحدة.
وقد قامت الوزارة بإصدار اللوائح والتنظيمات التي تكفل -بإذن الله تعالى- نجاح تطبيق هذه الخيارات التربوية في البيئات المدرسية، ويأتي في طليعة ذلك القواعد التنظيمية لمعاهد وبرامج التربية الخاصة التي صدرت عام 1422هـ، والدليلان التنظيمي والإجرائي للتربية الخاصة الصادران عام 1436هـ، وغير ذلك من الأدلة المتخصصة التي أصدرتها الوزارة في الآونة الأخيرة ، كما حرصت الوزارة على تقويم هذه الخيارات التربوية ومتابعة تطويرها، وتقديم التسهيلات والمعالجات الممكنة التي تعمل على تجويد العملية التعليمية والتربوية، والارتقاء بمستوى كم ونوع البرامج والخدمات المقدمة للتلاميذ ذوي الإعاقة، وبذلك، نالت المملكة قصب السبق في مجال التربية الخاصة على مستوى منطقة الشرق الأوسط، وتبوأت مكانة مرموقة بين دول العالم المتقدم في مجال الإعاقة.
ومع كل ما سبق، فإنه يتعين علينا أن نقف وقفة تأملية حول مفهوم الدمج الكلي على وجه الخصوص، إذ يلاحظ أن له جانبين؛ فأما الجانب الأول، فهو واضح، لا لبس فيه، ولا اختلاف عليه، ولا جدال حوله، وهذا الوضوح يتجسد في القفزات الكمية والنوعية التي حققها الدمج التربوي بأنواعه المختلفة، وفي مقدمتها الدمج الكلي لأبنائنا وبناتنا ذوي الإعاقة، وهو يعد أسلوباً تربوياً حضارياً راقياً يسهم في تحقيق جودة الحياة لهذه الفئات، منسجماً بذلك تماماً مع أهداف ومستهدفات رؤية السعودية (2030)، ثم إنه لم يعد تجربة كما يطلق عليه البعض، وإنما أصبح واقعاً فعلياً، وفلسفة تعليمية، وسياسة تربوية، وذلك بحكم النظام، وفوق هذا، فهو حق مكتسب كفلته الدولة -أيدها الله- لهذه الفئات، وذلك بموجب سن الأنظمة والتشريعات التي توجت مؤخراً بنظام حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، الصادر بالمرسوم الملكي الكريم رقم (م-27) وتاريخ 11-2-1445هـ.
وأما الجانب الآخر للدمج الكلي، فهو يحتاج إلى شيء من الإيضاح، وذلك كما يلي:
1- إن هناك فرقاً واضحاً بين مصطلح الدمج الكلي (Full Inclusion)، وهو أحد أشكال الدمج التربوي (Mainstreaming)، والذي بموجبه يتم دمج التلاميذ ذوي الإعاقة مع أقرانهم من غير ذوي الإعاقة -بشكل كامل- في إطار التعاون والتكامل ضمن منظومة التعليم العام والتربية الخاصة، وبين مصطلح التعليم الشامل (Inclusive Education)، والذي يعني أن مدارس التعليم العام ملزمة بقبول جميع الأطفال، بمن فيهم الأطفال ذوو الإعاقة في سياقات التعليم العام وتحت مسؤولياته.
2- إن الدمج الكلي لا يعني - بأي حال من الأحوال - وضع الأطفال ذوي الإعاقة في فصول مدارس التعليم العام مع أقرانهم من غير ذوي الإعاقة بدون مساعدة، بل هو يقوم على نظام دعم مساند يتم من خلاله تقديم خدمات التربية الخاصة وفقاً لنوع إعاقة الطفل، ودرجتها، واحتياجاته التربوية والنفسية والاجتماعية.
3- إن الدمج الكلي قد يتطلب -في حق بعض الأطفال ذوي الإعاقة- تكييف البيئات المدرسية، وذلك من حيث المستلزمات المكانية والتجهيزية داخل الصف الدراسي، وتعديل المناهج الدراسية، وتنويع الاستراتيجيات التدريسية التي يستخدمها معلم الفصل العادي، وتحقيق المرونة في تطبيق أدوات التقييم والتقويم، وكل هذا من أجل تمكين التلاميذ ذوي الإعاقة من مسايرة أقرانهم من غير ذوي الإعاقة.
4- إن بعض التلاميذ ذوي الإعاقة في بيئات الدمج الكلي قد يحتاجون إلى تدخل معلم التربية الخاصة، أو حتى وجود مساعد معلم إلى جانب معلم الفصل العادي، وجدير بالذكر أن لائحة الوظائف التعليمية قد تضمنت وظيفة مساعد معلم، وكذلك اشتملت القواعد التنظيمية لمعاهد وبرامج التربية الخاصة -المشار إليها آنفاً- على الوظيفة نفسها، حيث تضمنت المادتان الحادية والخمسون والثانية والخمسون من هذه القواعد تعريفاً لمساعد المعلم وتحديداً لمهامه الأساسية، وفي هذا السياق، أصدر مجلس الشورى قراراً يؤكد فيه على أهمية هذه الوظيفة في مجال التربية الخاصة، وعلى أثر ذلك ، وجه مجلس الوزراء الجهات المعنية للعمل بموجبه.
5- إن مجرد وجود التلميذ ذي الإعاقة في بيئة الدمج الكلي لا يقضي على الإعاقة أو الاضطراب، ولا ينفي حاجته إلى خدمات التربية الخاصة، فمشكلة الإعاقة أو الاضطراب ملازمة للشخص مدى الحياة، وصحيح أن حالته قد تتحسن مع تكثيف التدخل المبكر وتقديم الدعم اللازم، ولكن ليس بصحيح أن المقعد الدراسي (المكان) هو الذي يخلص التلميذ من الإعاقة أو الاضطراب، ولا ينبغي أن يكون سبباً في عدم استفادته من الخدمات الضرورية المتخصصة.
6- إن الدمج الكلي هو أقل البيئات التعليمية تقييداً، إذا ما توفرت متطلباته، لكنه -في ظل عدم توفرها- قد يكون هو أكثرها تقييداً، بل إنه قد يترتب عليه ضرر، ليس للطفل وأسرته فحسب، وإنما للمجتمع التعليمي بشكل عام؛ ذلك أن توفير متطلبات تكييف البيئة المدرسية بجميع مكوناتها يستفيد منه جميع التلاميذ ذوي الإعاقة وغير ذوي الإعاقة على حد سواء، ما يعني أن وجود التربية الخاصة في مدارس التعليم العام يُعد مدخلاً من مداخل إصلاح التعليم، أما في حال عدم توفرها، فإن التلاميذ ذوي الإعاقة قد يصبحون عبئاً ثقيلاً على النظام التعليمي، ومصدراً من مصادر الرسوب والتسرب، الأمر الذي يؤثر سلباً على الكفاءة الداخلية للتعليم، وبالتالي يطال التأثير مخرجاته.
وخلاصة الكلام في هذا الموضوع هي أن ما يقال عن الفوائد والإيجابيات، وما يذكر من التأثير والمؤثرات، وما تظهره الأبحاث والدراسات، وما تؤكده التجارب والخبرات من أن الدمج الكلي هو البيئة الطبيعية للغالبية العظمى من التلاميذ ذوي الإعاقة من الناحية التربوية والنفسية والاجتماعية، وهو أقل الخيارات التربوية تكلفة من الناحية الاقتصادية، إلا أن هناك حقيقة مهمة مؤداها أنه يوجد بعض التلاميذ ذوي الإعاقة الذين قد يحتاجون إلى خدمات كمية ونوعية متخصصة لا تتوفر في مدارس التعليم العام، وعلى هذا الأساس، فإنه ينبغي العمل على تفعيل جميع الخيارات التربوية الممكنة؛ بما يفي بكافة احتياجات جميع التلاميذ ذوي الإعاقة على اختلاف خصائصهم واحتياجاتهم.
وفي الختام، أدعو الله -سبحانه وتعالى- أن يحفظ بلادنا الحبيبة، وأن يحفظ عليها أمنها واستقرارها، وأن يحفظ لها قيادتها الحكيمة الواعية الرشيدة كي تواصل مسيرة الخير والعطاء والنماء.