اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
موضوع التعزية ذو شجون ودفعني إلى الكتابة فيه اطلاعي على تغريدة للأمير الدكتور خالد بن سعود أشار فيها إلى بعض مواقف العزاء وما شابها من شوائب واتصف به أطرافها من مثالب ووصلت إليه الأمور من انحدار أخلاقي على حساب الدين والعقل والأمانة والحياء، وإذا كان هذا هو انطباع الأمير ولسان حاله فكيف يكون واقع الحال بالنسبة للآخرين.
ومما لا شك فيه أن المواساة عند الشدة والتخفيف من معاناة مَنْ نزل به نازلة خُلق إسلامي جميل وموقف إنساني نبيل، وينطبق ذلك أشد الانطباق على تعزية أهل المتوفى والتعامل مع موقف العزاء بالطريقة التي تضمن تحقيق الهدف من التعزية من خلال حث أهل المتوفى على الصبر والاحتساب، وتوعيتهم بأن لكل أجل كتاباً، وأن الموت حق ولا يسأل عن أسبابه كما قال جلَّ شأنه: {كلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ، ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} الآية 57 العنكبوت، وكما قال الشاعر:
الموت باب وكل الناس داخله
فليت شعري بعد الموت ما الدار
والتعزية سنةٌ مسنونة تربط بين العادة ومفهوم العبادة يُثاب عليها من يؤديها رغبةً فيما يرضي الله وطلباً للأجر، وتعد مكرمة من مكارم الأخلاق وفضيلة من فضائل الإسلام لما فيها من الحث على الصبر والدعوة إلى التعاون على البر، والرضا بالقضاء والقدر، والمؤمن يجعل مصيبته صبراً وغنيمته شكراً.
والعزاء يعني الصبر والتعزية تعني تصبير أهل المتوفى ومواساتهم والدعاء لهم، وتذكيرهم بأن كل ما يصيب الإنسان هو قضاء وقدر، وكل قضاء وقدر له حكمة لو علمها الإنسان لظهرت له النقمة نعمة والمحنة منحة، وعدم الصبر عند الابتلاء يدل على الجزع وعدم الرضاء بالقضاء.
والتعزية تجمع بين الخلق الديني والعمل الإنساني نتيجة لتأثيرها الإيجابي ومردودها الخيري على أهل الميت وتنميتها للصلات والروابط الإنسانية والاجتماعية بين أفراد المجتمع عن طريق تقوية وتمتين علاقات التآلف والتآخي.
وتفعل التعزية مفعولها ويظهر مدلولها عندما يستقيم مسارها وتطرح ثمارها، بعيداً عن الانحراف في هاوية الجزع والانزلاق في متاهات البدع، وتتم في أي مكان وعبر الاتصال والرسائل ومن الثابت مشروعيتها قبل الدفن وبعده.
وانطلاقاً من أن التعزية تهدف إلى الدعاء للميت بالرحمة والمغفرة والدعاء لأهله بالثواب والأجر وحثهم على الاحتساب والصبر فإن الذي يعزي مصاباً أصيب بوفاة أحد أقاربه يستخدم ما تيسَّر له من العبارات المشتملة على الدعاء للميت بالمغفرة وللحي بالصبر والأجر، ومن ذلك ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (لله ما أخذ ولله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فاصبر واحتسب)، ومن العبارات المستخدمة قولك للمصاب: عظم الله أجرك وأحسن عزاءك وغفر لميتك وألهمك صبراً وأجزل لك بالصبر أجراً.
وعلى الجانب الآخر فإن المصاب يحمد الله على كل حال ويقول ما تيسَّر له قوله بحيث يسأل الله أن يلهمه الصبر ويعينه على مصابه، ويجعل ما أصابه تطهيراً له من ذنب وتنبيهاً له من غفلة، وتعريفاً له بقدر النعمة مع تقدير موقف الذي يعزيه والدعاء له.
والتعزية لها هيبتها وللأحزان حرمتها، وحتى تؤتي ثمارها في حمل أهل الميت على الصبر والسلوان والتغلب على ما أصابهم بقوة الإيمان لا غنى لهم عن التأدب بآدابها وضبط مسارها والمحافظة على وقارها في منأى عن ترف المترفين وتكلّف المتكلّفين الذين يحولون الترح إلى فرح ويبحثون عن المكاسب من وراء المصائب.
ومن الواضح أن العزاء في هذا الزمن انحرف عن مساره وفقد شيئاً من وقاره لوجود الكثير من البدع التي ترتب عليها انحرافه عن أهدافه بسبب الممارسات الخاطئة التي يمارسها البعض في مناسبات التعزية نتيجة لما يعانيه هؤلاء من حب المظاهر ومركبات النقص والأثرة والتقليد الأعمى والبرغماتية إلى الدرجة التي جعلتهم يتجاوزون الحدود ويكسرون القيود، وينحرفون ببوصلة العزاء من الاتجاه المشروع إلى الاتجاه الممنوع.
ونتيجة للتغيّرات الاجتماعية والانفتاح الثقافي على الخارج وما نجم عن ذلك من التأثر بالثقافات الوافدة والأفكار المستوردة وَجَدَت فئة محسوبة على المجتمع فرصتها وانفسح المجال أمامها للركض وراء سراب البدع وبريق الهوى، والابتعاد عن آداب التعزية وطريق الهدى.
وتأسيساً على ذلك فقد انحرف أهل الميت بالتعزية عن مسارها وسلبوها وقارها بعد أن جعلوا من الترح صورة ممقوتة من صور الفرح، وحولوا عادات التعزية المباحة إلى شكل من أشكال النياحة واستبدال واجب العزاء والمواساة بالتصوير والمباهاة، وذلك باقتراف البدع واتخاذ التعزية وسيلة للبحث عن الشهرة المزيّفة والظهور المزوّر عن طريق مشاهير التصوير ودعاة التزوير الذين يتسابقون على صناعة المحتويات الهابطة والتسويق للبضاعة الساقطة عبر مواقع التواصل والأجهزة الذكية ومنابر مَنْ لا منبر له.
وبما أن التعزية مشروعة لمواساة أهل المتوفى والدعاء لهم ولميتهم وتخفيف حزنهم والتهوين من وقع المصيبة عليهم وحملهم على الصبر فإنه لا مكان فيها للتكلّف والإسراف والبدع والمنكرات والمباهاة والمغالاة في أمور الدنيا، وما في حكم ذلك من الممارسات التي تتعارض مع عادات التعزية المباحة وتحويلها إلى نياحة.
ومطلوب من الذي يعزِّي احترام مشاعر أهل المتوفى ومراعاة الحالات النفسية والاجتماعية والاقتصادية لهم وتجنب الخوض في أمور دنيوية أو الدخول في أحاديث جانبية خارج محيط التعزية، والابتعاد عن كل ما من شأنه تحويل العزاء إلى حالة احتفالية مرفوضة، وتحويل الترح إلى صورة من صور الفرح المبغوضة، وفي الوقت نفسه يتعيَّن على المعزي تخفيف سلامه وعدم الخروج عن أهداف التعزية في كلامه ولا يطيل الجلوس، بل يستعجل في قيامه.