خالد بن عبدالرحمن الذييب
هل فكرت يوماً بالتعامل مع المدينة على أنها كائن حي يتنفس. المدينة ليست مجرد مبانٍ وطرق، المدينة للناس وبالناس، هي كائن حي يتنفس يستيقظ مع إشراقات الصباح الأولى، وينام في نهايات الليل الأخيرة.
المدينة التي تتنفس هي تلك المدينة التي تمنح سكانها المساحات الخضراء ولا تخنقهم بالإسمنت والسيارات، ولا تتعامل مع المساحات الخضراء على أنها مجرد مساحات للمدينة ولكنها رئة تضخ الحياة في شرايينها وتوفر المتنفسات الطبيعية للراحة والاستجمام.
ومن الأمثلة الحديثة مشروع «هاي لاين» في نيويورك الذي كان في الأصل خط سكة حديد وتم تحويله عام 2006م إلى منتزه حضري يمتد لأكثر من 2.3 كم، وكذلك مبادرة «المدينة الحديقة» city in garden في سنغافورة التي بدأت في ستينات القرن الماضي بهدف جعل المدينة كاملة أشبه بأن تكون داخل حديقة. ولا يمكن أن ننسى الأمثلة المحلية كمشروع حديقة الملك سلمان، ومبادرة الرياض الخضراء، وغيرها من الأمثلة التي تعبّر عن «أنفاس» المدينة. هذه المشاريع تشكل الرئة الخضراء للمدينة التي تحتاجها لتتنفس بها.
وفوق ذلك فإن المدينة تحتاج «الأكسجين الاجتماعي» الذي يمثل البشر الذين يتدفقون في شرايين المدينة، وذلك من خلال التصميم القائم على التفاعل والحركة بين البشر. يقول تشارلز مونتغمري الكاتب الكندي صاحب كتاب «المدينة السعيدة»: «إن المدينة الأكثر سعادة ليست تلك التي لديها أفضل الوظائف، أو الأعلى دخلاً، بل تلك التي تتيح لأفرادها أكبر قدر من التواصل».
أدرك الرومان أهمية ذلك بإنشاء الساحات العامة، التي كانت تمثل ساحات للتفاعل البشري ومكان تجديد للحياة، ولم تغفل المدينة الإسلامية أهمية ذلك من خلال ساحات بغداد مثل ساحة الرصافة التي أسست في عهد أبو جعفر المنصور، وصحن جامع قرطبة بالأندلس إضافة إلى ساحة جامع الفناء في مراكش بالمغرب التي تعتبر حديثة مقارنة بالأمثلة السابقة، حيث تعود إلى القرن الحادي عشر الميلادي وأسستها دولة «المرابطون»، التي اشتهرت بكونها إضافة إلى نشاطها كسوق إلا أنها مكان لرواة القصص والفنانين.
الأكسجين الاجتماعي أزعم أنه يعبّر عن كل ما يجعل المدينة حية ونابضة بالحياة إنسانياً، وهو بخلاف المناطق الخضراء التي تعتبر رئة المدينة، فالأكسجين الاجتماعي هو عدة عوامل تغذي الترابط بين أفراد المجتمع وتمنحهم شعور الانتماء، وذلك من خلال مكونين رئيسيين وهما المساحات العامة، وتشمل الساحات والحدائق والمنتزهات، والمكان الثالث ويشمل المقاهي والمكتبات العامة.
أخيراً..
المدينة ليست مجرد مجموعة من الكتل الخرسانية والشوارع، إنها كيان يتنفس بالمناطق الخضراء ويأخذ الأكسجين بتدفق البشر في شرايين.
ما بعد أخيراً...
هناك مدن يعبر من خلالها الناس..
وهناك مدن يعيش فيها الناس..
المدن التي تتنفس.. مدن للحياة.