د.سليمان عبدالعزيز السحيمي
البداية المفاجئة: أستاذ بلا إعداد تربوي
كنتُ قد بدأت مسيرتي العلمية معيدًا في كلية الطب، وحين حصلت على الزمالة - التي تعادل شهادة الدكتوراه - جاء تعييني تلقائيا عضوا في هيئة التدريس بدرجة أستاذ مساعد، وهي الدرجة التي تتلوها عادة أستاذ مشارك ثم أستاذ (بروفيسور).
وفي اليوم التالي مباشرة للتعيين، طلب مني أن أدرس طلاب الكلية، لا لشيء سوى أن مسماي الوظيفي أصبح يتيح لي ذلك، بغض النظر عن إمكاناتي ومواهبي وقدراتي التدريسية.
سألت نفسي آنذاك كيف أدرس وأنا لم أتلق أي قدر من التعليم أو التدريب في مجال التربية والتعليم؟ فمناهج كليات الطب - كما هو حال الكليات المتخصصة الأخرى - لا تشتمل على مقررات تتعلق بالجانب التربوي أو المهارات التعليمية، مثل إعداد المناهج، طرق التدريس، التقييم وصياغة الاختبارات.
من قاعات التدريس الى مكاتب الإدارة: رحلة بتحديات جديدة ومسؤولية بلا عدة؟؟
وبعد فترة من العمل الأكاديمي، استقلت من هيئة التدريس وانتقلت إلى قطاع آخر، حيث كلفت بإدارة منشأة صحية، ثم منشآت أخرى لاحقا. حينها وجدت نفسي أمام تحدٍ جديد لم تكن لدي أدوات إدارية مكتملة سوى بعض القدرات الفطرية والحس العملي.
فالإدارة علم واسع يشمل التخطيط الاستراتيجي، أساسيات القيادة، المشاركة الفاعلة في الفرق الإدارية، تقييم الأداء، التعامل مع الرؤساء والمرؤوسين، أساليب التحفيز والعقاب، وإدارة الموارد والمخاطر وكلها أمور لم تتح لي الفرصة لدراستها مسبقا.
السعي للتأهيل الذاتي
في الموقف الأول - أي التدريس - رتبت مع إحدى كليات التربية في المملكة حضور ساعات علمية في أساسيات التربية وطرائق التدريس على سبيل المشاركة غير المتفرغة.
وفي الموقف الثاني - أي الإدارة - التحقت بزمالة كانت تعدها الكلية الأمريكية للأطباء التنفيذيين، وأكملت كثيرا من متطلباتها حضورا أحيانا وعن بعد أحيانا أخرى.
لا أدعي بعد هذا الاجتهادات أنني صرت معلماً متميزاً أو إدارياً بارعاً، لكنني على الأقل متيقن أنني لم أكن كارثياً في أي من المهمتين.
التجربة ليست فردية
وما وقع لي لا يقتصر على الأطباء وحدهم، بل يشمل غيرهم من المهندسين الماليين، الزراعيين، الصيادلة، خبراء الحاسوب وغيرهم. فبينما استطاع بعض أصحاب المواهب الفطرية أن يثبتوا وجودهم في مهام أخرى أو كإداريين، فإن الغالبية عانوا من إخفاقات وفشل أحيانا بلغت حد الكارثة. وهؤلاء لا نلومهم بقدر ما نلوم الظروف، لا أدري الحسنة أو السيئة، التي دفعتهم إلى مواقع لم يعدوا لها علمياً ولا تدريبياً.
المثال على أعلى المستويات
هذا القصور لا يقف عند حدود الوظائف العادية، بل يمتد حتى إلى المناصب الوزارية. وإلا كيف نفسر في مراحل سابقة التغيير المتسارع لعدد من الوزراء؟
يذكر الدكتور مبارك العصيمي - المتحدث السابق باسم وزارة التربية. أنه من عليه خمسة وزراء خلال ستة أعوام. وفي وزارة الصحة عاصرنا خمسة وزراء في عامين.
ولا يعني هذا التشكيك في إخلاصهم أو قدراتهم العامة، لكن الفكرة أن التخصص والمعرفة في الإدارة وفي مجال المهمة أصبحا أكثر إلحاحا مع تعقد الظروف.
الماضي البسيط.. والحاضر المعقد
قد يقول قائل إن وزارات وإدارات أسندت في الماضي إلى أشخاص ليست لهم خلفيات مباشرة في مجالها، أو في الإدارة بشكل عام.. ومع ذلك نجحوا واستمروا لسنوات ولعقود
وأقول هنا إن العالم تغيّر، والمعطيات تبدلت والتحديات تضاعفت والسباق مع الزمن أصبح أكثر شراسة.
ولهذا تبنت المملكة رؤية طموحة يقودها أمير ملهَم وملهِم، تعتمد على الأهداف والمؤشرات الدقيقة، وعلى الحوكمة الصارمة، وإدارة الجودة والاستخدام الأمثل للموارد، والاستباق في التعامل مع المخاطر.
الموهبة شرارة.. والعلم والتدريب وقودها
إن ما تقدم يعيدنا إلى نقطة جوهرية: يجب إعادة النظر في تكليف أي شخص بأي مهمة، مهما كان مستواها، دون التأكد من امتلاكه الأساسيات اللازمة.
فالموهبة وحدها - كالشعر - لا تكفي. الشعر موهبة، لكنه يحتاج إلى علم وصقل وتهذيب. وكذلك المهام والمسؤوليات تحتاج إلى موهبة وقدرات وهذا يشكل ثلث المطلوب - لكن لا غنى عن العلم والتدريب المستمر ليكمل الثلثين الآخرين..
إذا اتفقنا على هذه الأفكار، فاعتقد اننا بحاجة الى اعداد آلية لتطبيقها على كافة المستويات ، أخذين بعين الاعتبار الحقائق التالية:
- العلم لا عمر له: فطلب العلم قائم من المهد إلى اللحد، ولا يعيب المرء أن يتعلم وهو في منصب عال أو في سن متقدمة.
- التعلم ليس بالضرورة شهادات جامعية: فقد يكون عبر دورات قصيرة برامج تدريبية متخصصة، أو حتى تعلم عن بعد.
- التعلم عملية مستمرة: فلا ينبغي أن يتوقف بمجرد تسلم المهمة، بل يجب أن يرافقها طوال فترة القيام بها.
- المراجعة الذاتية: على الإنسان أن يكون صادقا مع نفسه، فيقيمها بإنصاف، ويخطط لتطويرها «رحم الله امرأً عرف قدر نفسه».
- التنظيم المؤسسي: يمكن للجهات المعنية أن تضع أنظمة واضحة لترجمة هذه المبادئ إلى واقع عملي.
تجارب قائمة
وليس بعيدا عنا ما قامت به وزارة التربية والتعليم حين فرضت على المعلمين - بعد تخرجهم - دورة في التأهيل التربوي. قد نختلف حول صواب القرار أو خطئه، لكن التجربة تشير إلى إدراك الحاجة إلى التأهيل المكمل للشهادة الجامعية.
ما بين العام والخاص
وأخيرًا، لا يقتصر هذا الكلام على الوزارات أو الجهات الحكومية، بل يمتد إلى القطاع الخاص، الشركات العامة، الشركات العائلية، والمنشآت بمختلف أنواعها. فالجميع معنيون اليوم بالعلم والتأهيل والتدريب باعتبارها شرطا رئيسيا للنجاح والاستمرار.
وأخيراً، فإن العالم يتغير بسرعة، ولا بقاء إلا لمن يتسلح بالعلم، ويتأهل، ويتدرب باستمرار.