د. سفران بن سفر المقاطي
يشهد عالمنا اليوم ثورة اتصالية حقيقية تجاوزت كل التوقعات، حيث تحول الإعلام من مجرد أداة لنقل المعلومات إلى منظومة تفاعلية معقدة تعيد تشكيل العلاقات الإنسانية والمجتمعية. هذا التحول الجذري، الذي أطلق عليه مصطلح «الإعلام الجديد»، لم يكن وليد اللحظة، بل ثمرة تطور تقني ومجتمعي متراكم امتد لعقود، ووصل ذروته في السنوات الأخيرة مع ظهور تقنيات الذكاء الاصطناعي والواقع الافتراضي.
تعود الأصول الفكرية للإعلام الجديد إلى منتصف القرن العشرين، عندما وضع المفكر الكندي مارشال ماكلوهان أسس نظرية اتصالية ثورية في كتابه المهم «فهم وسائل الإعلام» عام 1964، حيث صاغ ماكلوهان مقولته الشهيرة «الوسيلة هي الرسالة»، مؤكداً أن طبيعة الوسيلة الاتصالية تحمل تأثيراً أعمق من المحتوى ذاته. كما تنبأ بعصر «القرية الكونية» التي يصبح فيها العالم شبكة مترابطة تتجاوز الحدود الجغرافية والزمنية. وتجسدت رؤية ماكلوهان الاستشرافية بشكل مذهل في عصرنا الرقمي، حيث أصبح العالم فعلاً شبكة متداخلة من المجتمعات الافتراضية المترابطة. يتبادل مليارات الأفراد المعلومات فورياً عبر المنصات الرقمية، ويؤثرون في بعضهم البعض بطرق لم تكن متصورة من قبل. هذا التأسيس النظري شكل الأساس الفكري لفهم التحولات اللاحقة، وساهم في تطوير مناهج بحثية حديثة تتناسب مع طبيعة الإعلام الرقمي.
شهدت الفترة من 2015 إلى 2025 تسارعاً مذهلاً في تطور الإعلام الجديد، مدفوعاً بثورة تقنية واجتماعية متكاملة وذلك بظهور منصات التواصل الاجتماعي الكبرى على الساحة الرقمية، وتحول فيسبوك إلى شركة «ميتا» وتويتر إلى «إكس»، مما أحدث نقلة نوعية في طبيعة الاتصال الجماهيري التفاعلي. هذه المنصات لم تقتصر على تسهيل التواصل، بل أصبحت أدوات قوية للنشر الفوري للخبار والآراء والأفكار والتأثير الاجتماعي. وبرز دور هذه المنصات بوضوح في الأحداث الكبرى مثل حركة «مي تو» وهي حملة اجتماعية عالمية ظهرت لأول مرة في الولايات المتحدة عام 2017، وتهدف إلى كشف ومناهضة التحرش والاعتداء الجنسي بمشاركة ملايين النساء حول العالم قصصهن ومؤديات إلى تغييرات تشريعية وثقافية في العديد من الدول، حيث استخدم الأشخاص حول العالم (وسم #MeTo) على منصات التواصل الاجتماعي لمشاركة قصصهم وتجاربهم الشخصية، مما ساهم في إثارة نقاش واسع وتحريك الرأي العام نحو دعم الضحايا ومحاسبة المتورطين، وهذا كمثال على قدرة وسائل التواصل على تحريك الرأي العام وإحداث تغيير اجتماعي ملموس أدى إلى تغييرات تشريعية وثقافية في العديد من الدول. غير أن هذه القوة جاءت مصحوبة بتحديات خطيرة، أبرزها ظهور «غرف الصدى» الرقمية التي تعزز الاستقطاب المجتمعي من خلال تعرض المستخدمين لمحتوى يتوافق مع آرائهم المسبقة فقط.
وشهد عام 2018 تحولًا كبيرًا نحو الفيديوهات القصيرة، حيث قاد «تيك توك» المشهد الاتصالي بأكثر من مليار مستخدم ودفع منصات أخرى مثل إنستغرام ويوتيوب لإطلاق خدمات مشابهة. لم يغير «تيك توك» طريقة مشاهدة المحتوى فحسب، بل غيّر أيضًا مفهوم الشهرة والتأثير وأوجد اقتصادًا رقميًا جديدًا قائمًا على التسويق بالمؤثرين. في المقابل، ظهرت تحديات منها تقنيات التزييف العميق التي أثارت مخاوف حول مصداقية المحتوى، مما دفع شركات كبرى لاستثمار مبالغ ضخمة في وسائل كشف الذكاء الاصطناعي. ومنذ عام 2022، أصبح الذكاء الاصطناعي التوليدي جزءاً أساسياً من صناعة المحتوى الإعلامي، حيث بدأت وكالات كبرى مثل رويترز ووكالة الأنباء المرتبطة في استخدامه لأتمتة التقارير الروتينية وتمكين الصحفيين من التركيز على التحقيقات والقصص الإنسانية. هذا التكامل أثار تساؤلات أخلاقية عميقة حول التحيز في الخوارزميات وحقوق الملكية الفكرية، مما دفع منظمات دولية لوضع أطر تنظيمية لضمان الاستخدام المسؤول.
ولم يقتصر تأثير الإعلام الجديد على طرق نقل المعلومات، بل امتد إلى قلب اللغة والثقافة. أدى انتشار الرموز التعبيرية والاختصارات الرقمية إلى ظهور «لهجات رقمية» جديدة غيرت طبيعة التواصل اليومي. أظهرت دراسات عام 2025 أن هذه التحولات بدأت تؤثر على اللغة الرسمية والأكاديمية، مما أثار نقاشات حول ضرورة تحديث قواعد اللغة لمواكبة العصر الرقمي. وللمرة الأولى في التاريخ، نشهد تطوراً لغوياً متسارعاً يحدث في الفضاء الرقمي وينتقل إلى الواقع الفيزيائي. أصبح الشباب يتواصلون بلغة هجينة تمزج بين النص والصورة والرمز، مما يتطلب إعادة نظر في مفهومنا التقليدي للتواصل اللغوي. هذه التغييرات امتدت إلى الثقافة، حيث أصبحت المنصات الرقمية مصدراً للاتجاهات العالمية والسلوكيات الاجتماعية.
فتح الإعلام الجديد مجالات بحثية جديدة ومتنوعة في دراسة تأثيراته على المجتمع والعلاقات الإنسانية، حيث لم يعد الإعلام مجرد وسيلة لنقل المعلومات، بل تحول إلى منظومة تفاعلية أعادت تشكيل الهوية الفردية والجماعية، ووسعت اهتمام الباحثين في تخصصات الإعلام والاجتماع والسياسة وعلم النفس. تركز الدراسات الحديثة على تحليل دور المنصات الرقمية في تشكيل القيم المجتمعية والعادات والسلوكيات، وكيف ساهمت في تعزيز الثقافة المعلوماتية ومحو الأمية الرقمية، وجعلت من الإعلام الجديد أداة لنشر الوعي بقضايا مجتمعية متنوعة.
برزت أيضاً دراسات حول تحديات وفرص الإعلام الرقمي، حيث أدت إلى تغييرات كبيرة في نماذج عمل المؤسسات الإعلامية التقليدية، مع الحاجة المتزايدة للتكيف مع البيئة الرقمية وظهور فرص جديدة للوصول لجماهير أوسع وتعزيز التفاعلية. لم يقتصر أثر الإعلام الجديد على المؤسسات، بل امتد إلى صناعة الرأي العام والسياسات، حيث أصبحت منصات التواصل الاجتماعي أدوات قوية في الحركات الاجتماعية، الحملات الانتخابية، وتوجيه الرأي العام نحو قضايا محورية.
ومن زاوية اللغة والمصطلحات اللغوية، أدى الإعلام الرقمي إلى ظهور مصطلحات ولهجات جديدة أثرت على التواصل البشري، مما دفع الباحثين لدراسة هذا التطور اللغوي السريع. كذلك ركزت الدراسات على التحديات المنهجية والنظرية التي يواجهها الباحثون في الإعلام الرقمي، والحاجة لتطوير أطر بحثية تجمع بين النظريات الكلاسيكية والمفاهيم الحديثة، كما ظهر في حملات التوعية البيئية على إنستغرام عام 2023 التي نجحت في تحويل قضايا المناخ إلي نقاشات واسعة بين مختلف طبقات المجتمع عالمياً.
وأتاح الإعلام الجديد فرصاً غير مسبوقة للفئات المهمشة للتعبير عن قضاياها وإيصال صوتها للعالم، معززاً مفهوم «المواطنة الرقمية» وفاتحاً آفاقاً جديدة للمشاركة المجتمعية. شهدنا كيف تحولت الحملات الرقمية إلى أدوات قوية في التصدي للظلم ونشر المبادرات الإنسانية، مثلما حدث في أزمات النزوح ودعم القضايا البيئية حول العالم. ومن جانب آخر، أنتج هذا التحول تحديات متعددة، ولعل أبرزها سرعة انتشار الأخبار الكاذبة والتضليل الإعلامي، مما يفرض الحاجة الملحة إلى تطوير مهارات التفكير النقدي والتعليم الإعلامي. لم تعد مسؤولية التحقق من صحة المعلومات تقع على عاتق المؤسسات وحدها، بل صارت مسؤولية فردية وجماعية مع تنامي دور المؤثرين الرقميين.
ومع تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات، أصبح الإعلام الرقمي محوراً لتطوير أساليب التغطية الصحفية، وزيادة تفاعل الجمهور مع المحتوى، مؤثراً بذلك على جميع جوانب الإعلام المعاصر.
وفي الختام، فرض الإعلام الجديد على المؤسسات الإعلامية التقليدية مراجعة نماذج عملها التقليدية والتكيف مع متطلبات السرعة والتفاعلية والشفافية. لم تعد التغطية الإعلامية محصورة بالوسائل الرسمية، بل باتت تعتمد على تفاعل الجمهور ومشاركته الفورية، مما غير من شكل العلاقة بين الصحفي والمتلقي. وفي خضم هذه التحولات، تظل القيم الإنسانية مثل المصداقية والعدالة والاحترام المتبادل هي البوصلة التي ينبغي أن توجه مسيرة الإعلام الجديد.
المستقبل سيحمل المزيد من الابتكارات والنماذج الاتصالية المتجددة، لكن ضمان التوازن بين الحرية والمسؤولية الإنسانية واجتماعية سيظل المعيار الأهم لنجاح هذا الإعلام في خدمة الإنسانية وصون كرامة الأفراد والمجتمعات وهكذا يستمر الإعلام الجديد في إعادة تشكيل عالمنا، موسعاً دائرتنا الإنسانية وجاعلاً إيانا أكثر انفتاحاً على الآخر. الرحلة مستمرة، وكل يوم يحمل معه احتمالات وفرصاً جديدة تفرض علينا أن نكون على قدر المسؤولية، وأن نستثمر في المعرفة والابتكار دون التفريط في المبادئ والقيم التي تقوم عليها أي حضارة إنسانية حقيقية.