إبراهيم أبوهيف
جاء موسم حج 1446هـ/ 2025م في ظروف دقيقة أعقبت موسمًا سابقًا (1445هـ/ 2024م) واجهت فيه المملكة العربية السعودية تحديات ضخمة إثر تسجيل وفيات عالية نتيجة موجة حر غير مسبوقة.
هذا السياق الدقيق دفع المملكة لاتخاذ قرارات استراتيجية جذرية، وتحويل هذه الأزمة إلى فرصة نادرة لإثبات قدرتها التنظيمية عالميً ما انعكس بشكل واضح على صورتها الذهنية في الإعلام الدولي ومنصات التواصل الاجتماعي.
أولاً: استراتيجية المملكة:
اتبعت المملكة في إدارة موسم الحج لهذا العام استراتيجية متكاملة انطلقت من ثلاثة محاور رئيسية:
الحوكمة والانضباط المؤسسي:
- تطبيق صارم لنظام «لا حج بلا تصريح»، أدى إلى تقليل أعداد الحجاج غير النظاميين بنسبة كبيرة.
- تفعيل ضوابط عمرية صارمة، أهمها حظر الحج على الأطفال دون 12 عامًا لأسباب صحية.
- إدارة تفويج الحجاج بمنهجية دقيقة مبنية على دراسات مسبقة وتخطيط ميداني محكم.
استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي:
- تأسيس مركز عمليات مكة الذكي (Smart MOC) لمراقبة الحالة الأمنية والصحية باستخدام الذكاء الاصطناعي، والذي سمح بالتدخل الاستباقي والحد من المخاطر.
- استخدام منصة «بصير» المتطورة لرصد تحركات أكثر من مليون حاج يوميً وتقديم تنبيهات مبكرة حول التكدس المحتمل.
- توظيف روبوتات إرشاد متطورة (مثل الروبوت «منارة 2») لمساعدة الحجاج غير الناطقين بالعربية في أداء المناسك بطريقة مريحة.
الاستثمار في البنية التحتية الصحية والبيئية:
- تركيب مئات الرشاشات المائية ووحدات التبريد المتقدمة في المشاعر المقدسة.
- توسعة مناطق الظل وإقامة آلاف الخيام المجهزة بتكييف الهواء، لضمان سلامة الحجاج تحت درجات الحرارة المرتفعة.
- مضاعفة أعداد الطواقم الطبية وإقامة مراكز إسعافية مجهزة بالكامل.
ثانياً: أداء ميداني ونتائج عملية استثنائية
انعكست هذه الاستراتيجيات على أداء المملكة بشكل واضح في الميدان:
الجانب الأمني والصحي:
انخفضت معدلات الوفيات والإجهاد الحراري بشكل حاد (بنسبة 90 %) مقارنة بموسم 1445هـ، ولم تُسجل أي حوادث تدافع أو أزمات صحية كبرى. هذه النتيجة الاستثنائية عكست مستوى غير مسبوق من الاستعداد والكفاءة الميدانية.
تجربة الحجاج وسهولة أداء المناسك:
- عبر غالبية الحجاج في استطلاعات ميدانية وعبر المنصات الرقمية عن ارتياحهم الشديد للتنظيم المُحكم وسهولة التنقل بين المشاعر.
- تعليقات الحجاج الدولية تضمنت إشادة واضحة بتوفر الخدمات الأساسية، مثل المياه المبردة، التبريد المركزي، ودقة التنظيم الزمني.
ثالثاً: استثمار آليات العلاقات العامة في تحسين الصورة الذهنية:
اعتمدت المملكة العربية السعودية في إدارتها لموسم الحج 1446هـ (2025م) على استراتيجية علاقات عامة شاملة ومحكمة، ركزت على تعزيز وتثبيت الصورة الذهنية الإيجابية لدى الجمهور العالمي. وبرزت هذه الآليات في عدة مستويات:
الرصد الإعلامي المستمر:
طبقت المملكة منظومة متقدمة للرصد الإعلامي اليومي، شملت التغطيات في جميع وسائل الإعلام الدولية والمحلية والإقليمية، مع تحليل معمق وفوري لاتجاهات الرأي العام ونبرة المحتوى المنشور بأكثر من 50 لغة.
سمح هذا الرصد للمسؤولين باتخاذ قرارات استباقية سريعة، والرد بشكل مدروس ومنظم على أية مخاوف أو انتقادات.
رسائل إعلامية موحدة ومتماسكة:
قدمت المملكة خطابًا إعلاميًا موحدًا استند إلى بيانات واضحة وحقائق ميدانية مثبتة، وتم ترويجه عبر كافة المنصات الإعلامية والاجتماعية.
وحرصت الجهات الرسمية على أن تكون هذه الرسائل إنسانية، معززة بالأرقام والحقائق، مما ساعد في إرساء مصداقية عالية للخطاب الرسمي السعودي.
توظيف التكنولوجيا الرقمية والتفاعلية:
استُخدمت منصات التواصل الاجتماعي بشكل استراتيجي، حيث تم التفاعل مع الجمهور الدولي من خلال محتوى بصري تفاعلي (فيديوهات، صور، إنفوجرافيك) يعكس الجوانب الإنسانية والتنظيمية للحج، ويؤكد على كفاءة المملكة في تقديم حلول مبتكرة.
كذلك تم الاستفادة من أدوات الذكاء الاصطناعي لتحليل المشاعر العامة وتوقع الأزمات قبل حدوثها.
الاستجابة السريعة وإدارة الأزمات المحتملة:
طبقت الجهات المعنية نظامًا لإدارة الأزمات والرد على الانتقادات المحتملة بشكل سريع وشفاف، مستفيدة من التجارب السابقة.
فعند ظهور أية معلومات مغلوطة أو انتقادات على المنصات الإعلامية، تم الرد فورًا عبر توضيحات رسمية وموثقة، مع توفير بيانات وافية تساعد في تهدئة المخاوف.
إشراك الجهات الإعلامية الدولية والإقليمية:
تمت دعوة الإعلاميين من مؤسسات إعلامية دولية كبرى، وتوفير كل التسهيلات اللازمة لهم لإعداد تقارير ميدانية موضوعية.
هذه الخطوة عززت مصداقية التغطية الإعلامية العالمية، وساعدت في تصدير صورة إيجابية وواقعية عن الجهود السعودية خلال الموسم.
هذه الآليات، وغيرها من الأدوات الاحترافية التي طبقتها المملكة في إدارة العلاقات العامة والصورة الذهنية، أثمرت عن تحول جذري في إدراك العالم لقدرتها التنظيمية، ورسخت صورة السعودية كقائدة عالمية في إدارة الحشود والأزمات والتواصل الاستراتيجي الاحترافي.
رابعاً: الصورة الذهنية في الإعلام الدولي ومنصات التواصل الاجتماعي
انعكس النجاح التنظيمي السعودي في موسم الحج على صورة المملكة عالميًا بشكل غير مسبوق:
الإعلام العالمي:
أشادت وسائل الإعلام الدولية الكبرى (BBC، CNN، Guardian، AP، AFP) بشكل واضح بتحسن الإدارة مقارنة بموسم 1445هـ، ووصفت الموسم بأنه «نقلة نوعية» في إدارة الحشود الكبرى.
ركزت التقارير على البُعد الإنساني والتكنولوجي، مشيرة إلى فعالية القرارات التنظيمية السعودية في إنقاذ الأرواح.
الإعلام العربي والإقليمي:
أجمعت وسائل الإعلام الخليجية والعربية على أن هذا الموسم أعاد الاعتبار لسمعة المملكة كقائدة في التنظيم الديني، وأكد قدرتها العالية على الاستجابة للتحديات السابقة.
تعليقات رسمية من قيادات خليجية وعربية عززت هذا التصور من خلال رسائل شكر وتهنئة للقيادة السعودية.
التفاعل على منصات التواصل الاجتماعي:
سجل وسم #Hajj2025 انتشارًا عالميًا واسعًا وتفاعلًا إيجابيًا تخطى حاجز 88 %، وشكل المحتوى المرئي (صور ومقاطع فيديو للحجاج، رجال الأمن، وروبوتات الإرشاد) مادة إعلانية ذاتية فعالة.
خامساً: استثمار الفرص المستقبلية
رغم النجاحات الكبيرة، يبقى عامل التحديات المناخية وارتفاع تكلفة الحج لبعض الجنسيات محل نقاش وتقييم مستمر.
ومع ذلك، قدم موسم الحج 1446هـ/ 2025م دروسًا قيمة أبرزها أهمية التخطيط الاستباقي، وتوظيف الذكاء الاصطناعي، والاستثمار في البنية التحتية المقاومة للأزمات، ما قد يشكل خارطة طريق لإدارة التجمعات الكبرى مستقبلً ليس فقط في مواسم الحج القادمة، وإنما كنموذج عالمي في إدارة الحشود.
تجاوزت المملكة العربية السعودية في موسم الحج 2025 مجرد تقديم خدمة دينية إلى صناعة نموذج عالمي جديد يُدرس في إدارة الحشود الكبرى.
هذا الموسم الذي وُصف بأنه «الحج الأكثر تنظيمًا في التاريخ الحديث» يثبت قدرة السعودية على تحويل الأزمات إلى فرص حقيقية، وتصدير صورة ذهنية إيجابية عن كفاءتها القيادية في إدارة المناسبات العالمية الكبرى.
بهذا نجحت المملكة في إعادة تعريف ما يعنيه «القيادة الدينية في زمن التقنية»، وهو نجاح لم يمر مرور الكرام في ساحات الإعلام الدولي، بل صار حديثًا عن قدرة دولة ذات رؤية على تجاوز التحديات، وصناعة تجربة عالمية فريدة.