هياء الدكان
هل جربت يومًا أن يرحل عنك أحدهم فجأة، فتكتشف أنك لم تقل له كلمة شكر أو حب، ولم تمنحه لحظة ودّ كان يستحقها؟ كم من مرة نكتب مرثيات مؤثرة بعد الفقد، بينما بخلنا بكلمة بسيطة يوم كان بيننا!
تأمل من حولك.. لماذا ننتظر حتى يغيبوا أو يرحلوا عنا لنكتب عنهم بحزن ونرثي فراقهم؟
لماذا لا نخلّد ذكرهم وهم أحياء بيننا، يصنعون الأثر، فنشكرهم ونرفع من قدرهم، ونمضي معهم في طريق العطاء؟ أليس من لا يشكر الناس لا يشكر الله؟
كم من مرة غاب شخص عن حياتنا أيامًا، ثم جاءنا خبر رحيله فآلمنا الفقد، وقلنا: «لقد كان بيننا!»، وأدركنا حينها أن الدنيا سريعة الزوال، وأن الانشغال المفرط يحرمنا من لذة التواصل الإنساني.
كم من مبدع في عمله هُمّش وكأنه غير موجود، حتى إذا غاب أو مات، انهالت كلمات الثناء والحزن: «لقد كان.. وكان..». وربما لم يسعفهم الصدق أو الوفاء حتى في تلك اللحظة، فاختلقوا محاسن لم يقولوها له في حياته.
ولا يقتصر الأمر على المبدعين فحسب، بل يمتد إلى أغلى الناس من الأقارب، خاصة من يطلبك لزيارته أو تعلم حبه وحرصه عليك.. كم نتعلل بالأشغال ونؤجل التواصل، حتى تفوتنا اللحظة للأبد.
أتذكر هنا قصة امرأة تقول على لسان شقيقتها: «لم أكن أحرص على زيارة والدي كثيرًا، رغم أنه كان يطلبني دومًا. كنت أنشغل ببيتي وأولادي، وأكتفي بحضور يوم مع إخوتي عند اجتماعهم، أو يوم عابر وحدي، وأعتذر باقي الأيام.. حتى جاء ذلك اليوم، اتصل بي والدي - وكان بصحة جيدة - وقال: زوريني غدًا، أخواتك سيحضرن اتصلت بهن جميعاً. قلت له نعم، لكنني لم أذهب ولم أستغرب من طلبه المفاجئ.. انشغلت بتحضير ابنتي العروس، وقلت في نفسي: سيبقى والدي بخير، وسأزوره لاحقًا.
اتصلت بها أختها لتؤكد لها أن والدها اتصل بهن جميعاً على غير العادة وطلب رؤيتهن في اليوم التالي وهن كثيرات لكنها لم تذهب! في نفسها إذا احتاج شيئاً فأخواتها كثيرات وفيهن البركة..
وفي الغد جاءها الخبر الصاعق.. توفي والدها.. ليلة مغادرة أخواتها تقول لحظتها شعرت أن الدنيا توقفت، وأن كل اعتذاراتي سقطت من قيمتها.
رحل ذلك الذي كنت أظن أنني أستطيع أن أطرق بابه في أي وقت، وأدخل عليه بلا موعد ولا استئذان. رحل دون أن ألبّي طلبه الأخير، رحل قبل أن أقول له: «ها أنا معك يا أبي.. لبيك».
وهذا ما يحدث مع كثير من الأمهات، نطمئن إلى وجودهن في بيوتهن، فنظن أنهن دائمًا على ذات المقعد وفي ذات المكان، وفي أي وقت، فنؤجل لقاءهن ونؤخر زيارتنا.. بل نؤخر حتى مطالبهن.. حتى نفاجأ بأن الوقت قد سرقنا، وأن اللحظة التي أخّرناها لم تعد ممكنة.
فلا تنتظر الغد، ولا تؤجل السلام أو الزيارة أو الكلمة الطيبة.. اذهب إليهم الآن، قبل أن يذهبوا هم ويتركوك مع حسرة لا يمحوها العمر كله.
إنها لحظة قاسية، تُذكّرنا أن الأشخاص ليسوا كالأيام، نتحكم في مواعيدهم كما نشاء. فالمرء لا يملك يومه، ولا يضمن بقاء من يحب، والفرص التي نؤجلها اليوم قد لا تعود أبدًا.
ولذلك، لا تنتظر الفقد حتى تُظهر مشاعرك الطيبة التي فطر الله قلبك عليها.
لقد كان حبيبنا صلى الله عليه وسلم قدوة في مسارعة الخطى لكل خير والثناء على الناس للعلم وضرب الأمثال، فكان يقول: «نِعْمَ العبد عبد الله لو كان يقوم من الليل»، وأثنى على أصحابه علنًا، يرفع من شأنهم ويشجعهم.
بل وذكر عليه أفضل الصلاة والتسليم أويس القرني، وهو لم يره، ولم يكن بين الصحابة في حياته، فقال لأصحابه:
«يأتيكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن، من مراد، ثم من قرن، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها برّ، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعتم أن يستغفر لكم فافعلوا» [رواه مسلم].
لقد أثنى عليه النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يلقاه الصحابة، ورفع قدره بينهم، لا لمكانته الدنيوية، بل لبرّه بأمه وصدق عمله.. وحين جاء زمن عمر رضي الله عنه، بحث عنه حتى وجده، وطلب منه أن يدعو له، تنفيذًا لوصية الحبيب صلى الله عليه وسلم.
هذه القصة تبعث فينا رسالة قوية: الثناء على الصالحين والمتميزين في حياتهم لا ينتقص منهم، بل يزيدهم رفعة ويجعل أثرهم ممتدًا.
ولقد جاء في الحديث: «إن من الناس ناسًا مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس ناسًا مفاتيح للشر مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه» [رواه ابن ماجه وصححه الألباني].
فاحرص أن تكون أنت مفتاحًا للخير، مغلاقًا للشر، تفتح أبواب الدعم والإحسان، ولا تكون سببًا في إغلاقها أو قطعها.
من واجبنا أن نحتفي بالطيبين من حولنا، ونعرّف الناس بهم وبأعمالهم، سواء كنا إعلاميين أو كتّابًا أو قادة أو حتى أفرادًا في دوائرنا الاجتماعية أو مؤثرين في الحياة.. فالمجتمع الرقمي اليوم متشعب وواسع، ويحتاج إلى من يدلّه على أصحاب الأثر الحقيقي.
ليس هذا مدحًا فارغًا أو مجاملة، بل هو شكر عملي وتقدير صادق، يساعد الآخرين على اكتشاف القدوات، ويوفر الجهد والوقت، ويعزز روح التعاون.
تذكر.. إن دعمك للآخرين لا يضرك، بل هو دليل وعيك وسمو نفسك، وثقتك أن ارتفاع الآخرين لا ينقصك، فكل أمرئ ميسر لما خلق له.. وأنت حين تدعم، تصبح سببًا في الخير، فالحمد لله الذي جعلك مباركًا حيثما كنت. واحذر أن تكون سببًا في قطع عطاءاتهم، فمفتاح الخير أجمل وأبقى ومفتاح الشر أعوج لا ينفع ويبلى ويقطع أثرك ومداد خيرك.
فلنقل للمحسن: «أحسنت» قبل أن يبتعد أو يرحل، ولنخبره أن أثره وصل، قبل أن نحمل حزن الفقد.
لنكن معًا في صناعة ثقافة الوفاء، ولتكن بدايتنا اليوم.. لا غدًا.
فلنجعل الكثير من التعبير عن الجمال من هذا اليوم لنصنع نقطة تحوّل ونبني جسور الود والدعم والصلة..
خذ هاتفك الآن، وابحث عن اسمٍ ربما غاب عنك منذ زمن، أرسل له كلمة ود، أو اتصل لتسأل عنه بصدق، مرّ على والديك أو أقاربك، ابتسم لجارك، أو امدح زميلك في عمله... ارسل ابتسم اطعم اسقِ إهدي هذه الأعمال الصغيرة التي قد تبدو عابرة هي في الحقيقة جسور من نور، تبقى في القلوب طويلًا، وربما تكون سببًا في دعوة لا تعلم متى تحتاجها.
الحياة أقصر مما نظن، والمحبون أندر مما نتخيل، فلا نضيّع فرصة لصناعة أثر أو زرع ابتسامة. كن بركة في حياتهم، وأخبرهم بصدق: «أنتم نعمة»، قبل أن يأتي.. دون استئذان.