أ.د. يحيى بن محمد شيخ أبو الخير
لقد شغل هذان السؤالان المعرفيان التفكير الإنساني عبر العصور المختلفة بحثا عن الإجابات والحلول والتفسيرات العلمية المنطقية، وخاصة بعد أن أصبح هذان السؤالان منذ بداية العقد الأول من القرن الحالي من أكثر التساؤلات الهيدرولوجية إلحاحاً في مختلف مراكز البحث والتطوير المعرفي والمعاهد والجامعات وبيوت الخبرة ومراكز دراسات الجدوى ودور التقانة والرصد وأروقة صنع القرار على المستويين العام والخاص في العالم. ونتيجة للسعي الحثيث من أجل كسر حواجز الزمان والمكان وسبر أغوار المجهول للوصول إلى إجابات قاطعة لهذين السؤالين الآنفي الذكر، اعلنت بعض الجامعات الأمريكية في عام 2014م، بعد جهدٍ بحثيٍ رصدي حقلي مختبري مضنٍ استمر لعدة سنوات، عن اكتشاف كميات مُمَيَّهَةِ محفوظة كهيدروكسيل غير سائلٍ (لقد تغير هذا الوضع إلى ماء فعلي فيما بعد كما سيأتي توضيحه لاحقاً في المقال) داخل معدن الرينغووديت الذي تشكل عبر الدهور في الطبقة الانتقالية المحصورة بين الوشاح العلوي والسفلي على عمق يتراوح من 410 إلى 640 كيلومتر تقريباً من باطن الأرض (Nature 507, 221-224, 2014). ويعد اكتشاف الهيدروكسيل في ذلك المعدن ذي البناء البلوري الأزرق الاسفنجي التركيب مؤشرًا لوجود مياه في الطبقة الانتقالية الآنفة الذكر بحجم يُقَّدَّرُ، حسب النشرة التي حررها مختبر بروكهافن الوطني اعتمادا على ما نشر بمجلة ساينس بنحو ثلاثة أضعاف حجم جميع محيطات الأرض مجتمعة (science, Vol 344,No.6189, pp. 1265-1268, 2014).
لقد بدأت طلائع هذا الاكتشاف نتيجة العثور على مجموعة دقيقة من معدن الرينغووديت داخل ماسة من منطقة جوينا بالبرازيل، وهي أول حالة للعثور على هذا المعدن الذي يتشكل بباطن الأرض أصلا وليس في حطام النيازك كما كان يعتقد. وقد أثبتت التحاليل المختبرية احتواء هذا المعدن على نسبة 1.5% ماءً بالوزن داخل بنيته البلورية، مما حفز ستيفن جاكبسون، من جامعة نورث وسترن بأمريكا، وبرندون شميندت من جامعة نيومكسيكو على سبر أغوار هذا المعدن في أعماق الأرض عبر تحليل الموجات السيزمية في أمريكا الشمالية كما سيأتي تفصيله لاحقا في هذا المقال. ويشير ستيفن جاكبسون إلى أن هناك شيئًا خاصًا للغاية في البنية البلورية لحجر الرينغووديت يسمح له بجذب الهيدروجين واحتجاز الماء في تلك الأعماق السحيقة (science, Vol 344,No.6189, pp. 1265-1268, 2014). ومع ذلك، وعلى الرغم من الإثباتات التجريبية لقدرة الأطوار العالية الضغط من الأوليفين المتمثل في الوادسلايت والرينغووديت على احتواء الماء بنسبة قد تصل إلى 2.5% من وزن تلك المعادن، فإن الأدلة الجيوفيزيائية المستخلصة من قياسات التوصيلية الكهربائية قد اسفرت عن نتائج تجعل مسألة اكتشاف الماء في منطقة الوشاح موضوعاً مثيراً للاهتمام وقابلاً لمزيد من السبر والاعتبار والتحليل والنقاش (Nature 507, 221-224, 2014).
لقد استنتج الباحثون التقديرات المتعلقة بكميات المياه المختزنة في معدن الرينغووديت الآنف ذكرها أعلاه من خلال تحليل موجات سيزمية لنحو 500 زلزال سُجلت بواسطة الفي جهاز متقدم لقياس الزلازل في الولايات المتحدة الأمريكية. وتفيد نتائج هذا التحليل الذي نشر في «مجلة نيتشر» المشار إليها أعلاه أن مخزون الماء الكامن في الرينغووديت قد يكون المصدر الأصلي القديم جدا للمياه على سطح الأرض. وبناء على ما تقدم، يُعَدُّ اكتشاف هذا المخزون الضخم من المياه في هذا المعدن بمثابة ثورة تمخض عنها، حسب بعض الدراسات ذات العلاقة بهذا المجال، فهم جديد لهيدرولوجية هذا الكوكب ودورة المياه فيه بشكل مختلف عما كان سائداً قبل هذا الاكتشاف.
من الجدير ذكره أنه منذ نَشرِ نتائج هذا الاكتشاف في عام 2014م والدراسات والأبحاث في هذا المجال لم تتوقف بل استمر زخمها تباعا على قدم وساق للوصول إلى إجابات حاسمة عن السؤالين المتعلقين بمصدر الماء الأصلي القديم لكوكب الأرض من ناحية والوسط البيئي الذي جاء منه ذلك الماء من ناحية أخرى. ففي عام 2018م عثر، على سبيل المثال لا الحصر، على جليد عالي الضغط من الماء الصلب محبوسا داخل بلورات من الألماس الأمر الذي يشير إلى وجود سوائل مائية بالفعل على عمق يتراوح من 400 إلى 800 كم في باطن الأرض. ولا يظهر هذا الطور في تلك الأعماق إلا إذا كانت هناك سوائل مائية تعرضت للتجمد داخل البلورات الماسية أثناء صعودها مما يعد داعما قويا لفكرة وجود مياه سائلة في أعماق الحزام الانتقالي المحصور بين طبقتي الوشاح العلوي والسفلي من باطن الأرض. وينسجم هذا الوضع بطبيعة الحال مع عينة الرينغووديت المُمَيَّهَةِ من الماس جوينا التي رصدت في عام 2014 طبقاً لما أسلفت سابقاً. كما نشرت مجلة نيتشر جيوساينس في عام 2022م ورقة علمية عن عينات جديدة من الألماس المُمَيَّهة أو الرطبة وجدت في منجم كارووي تحمل رينغووديت كان محبوساً على عمق يتجاوز 660 كم تحت سطح الأرض (Nature Geoscience,15, PP. 950 -954,2022). وتشير نتائج النمذجة الزلزالية التي أجريت خلال عامي 2024 - 2025م إلى وجود جيوب ومناطق مميهة في الحزام الانتقالي مرتبطة بالصفائح الهابطة. وتؤكد دراسات التوصيل الكهربائي والنمذجة التي نفذت عام 2025م إلى احتواء الحزام الانتقالي على كميات من المياه السائلة تعادل عدة مرات مياه المحيطات (Geochemistry,3,26 ,2025). ونتيجة لتلك الدراسات يعتقد بعض العلماء مثل ستيفن جاكبسون أن الماء كان ولا يزال جزءاً أصيلا من تكوين الأرض وأنه، قد خرج إلى سطحها من باطنها خلال سنوات تاريخها النشأوي الطويل. ويؤكد جاكبسون بمجلتي نيتشر وساينس المنوه عنهما آنفاً، أن استقرار حجم محيطات الأرض على مدى ملايين السنين يعد دليلاً دامغاً يدعم هذا الأمر ويسنده بقوة.
لقد أضحى، بناء على هذا الاكتشاف، التشكيك في مختلف النظريات التي تنص على أن الماء قد جاء من خارج كوكب الأرض عبر النيازك والأجرام السماوية التي رجمته أو اصطدمت به خلال ماضيها الغابر النشأة أمراً تعززه الحجج المنطقية والعلمية إلى حد كبير وتسنده الإثباتات التجريبية والرصدية. وبناءً على ذلك التشكيك الذي قد يصل إلى حد رفض النظريات المفسرة سابقاً لأصل الماء في الأرض ومصدره، بدأ التفكير الجاد في استبدال تلك النظريات بنظريات جديدة تجمعها قواسم مشتركة تفيد أن مياه كوكب الأرض لم تكن على سطحه أصلا بل انبجست من بواطنه السحيقة خلال التاريخ الطويل عبر الصفائح الجيولوجية الحركية ذات الصدوع والشقوق التي سمحت بتدفق الحمم المنصهرة والمياه من باطن الأرض مكونة على قشرتها الخارجية البحار والمحيطات ومختلف الأوساط المائية الأخرى التي لا تزال تتغذى من تلك المياه إلى يومنا هذا. ولولا وجود هذه المياه، حسب ستيفن جاكبسون وغيره، تحت طبقات الأرض الملتهبة واتصالها ببحار ومحيطات الأرض عبر الصدوع والشقوق لاختل النظام المائي في كوكبنا الأزرق البديع. وبناء على ما سبق، أعتقد انه ما كان من الممكن تَشَكُّلُ الدورة الهيدرولوجية الحالية التي تعود نشأتها إلى فترة متأخرة من التاريخ الجيولوجي للأرض لولا خروج الماء من باطن الأرض ابتداء إلى طبقتي قشرة الأرض السطحية الرقيقتين المعروفتين بالسيال المكونة للقارات والسيما المكونة لقيعان المحيطات والبحار.
استناداً لما تم تفصيله آنفا بشأن هذا الاكتشاف لابد من التنويه هنا بأن فرضية الهيدروكسيل غير السائل الذي كان يعتقد بأنه المكون الأساس للخزان المميه الذي اكتشف في معدن الرينغووديت في المنطقة المحصورة بين الوشاح العلوي والسفلي من باطن الأرض عام 2014م قد تغيرت حالياً بشكل جذري. فمنهجيات السبر والاعتبار الرصينة وأساليب الرصد الرقمية وتقنيات التحليل المختبري الدقيقة لعينات الألماس التي رصدت في الفترة من 2018م إلى 2022م وإجراءات النمذجة الزلزالية الشاملة والتوصيلية الكهربائية الفاعلة التي وظفت في هذا المجال بعد عام 2014م قد عززت جميعها تغير الفرضية وأكدت في الآن نفسه حقيقة وجود حزام انتقالي في منطقة الوشاح مكون من جيوب رطبة فعليا وخزانات مائية معتبرة وليس مركبا من الهيدروكسيل فحسب كما كان يعتقد في بدايات هذا الاكتشاف عام 2014م.
في ختام هذا المقال أود الإشارة إلى أن اكتشاف مخزون الماء في طبقة الوشاح بباطن الأرض وما تلاه من استنتاجات علمية تفيد أن أصل الماء المتاح على سطح الأرض قد خرج من باطنها إبان النشأة الأولى لم يكن أمراً غائبا معرفياً عن القرآن الكريم الذي تتصف سياقاته بالتحقق والوقوع والمشاهدة وكسر حواجز الزمان والمكان وقصب السبق الفريد على غيره في مختلف المجالات. فقد أشار الله عزوجل قبل 1500 عام في كتابه الكريم في سياق سردي دقيق لنشأة الخلق الكوني ومراحله المختلفة إلى إخراجه عز وجل الماء من الأرض بعد دحيها. فقال أعز من قائل في الآيات الواقعة من 27 إلى 33 من سورة النازعات: {ءأَنتُم أشَدُّ خًلقاً أمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمكَها فسَوَّاهَا * وأَغطَشَ لَيلَهَا وأخَرَج ضُحَاها * وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ}. وتعد منظومة الآيات الكريمات الآنفة الذكر، وخاصة الآية التي تنص على إخراج الله عز وجل الماء والمرعي من الأرض تحديدا، نمطاً قرآنياً فريداً من أنماط التحقق والوقوع والمشاهدة وكسرِ حواجز زمان تلك الآية ومكانها. ويتطابق هذا التحقق والوقوع والمشاهدة للآيات الآنفة الذكر أيضا مع قول الله تعالى في سورة هود الآية 44 {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}. فتشير كاف المخاطبة في لفظة «ماءك» إلى الملكية أو الإضافة التي تعني تخصيص الماء بالأرض تحديدا والتأكيد على أن الماء المشار إليه في الآية الكريمة ليس شيئاً خارجاً عنها، بل إنه يخص الأرض التي خرج منها أصلا ويتعلق بها تعلقاً وثيقا. وهذا يدل على أن ما ورد بخصوص هذا الاكتشاف مرجعياً يتوافق مع الآيات القرآنية الآنفة الذكر، ويعد أيضاً مصداقا لقوله تعالى في الآية 67 من سورة الأنعام: {لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}، وقوله عزوجل في الآية 88 من سورة ص: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ}، وكذلك قوله تعالى في الآية 93 من سورة النمل: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.
وختاماً لا بد من التأكيد أن العلماء حتى يومنا هذا يسبرون أغوار هذا الاكتشاف وأبعاده ويدرسون الكيفية التي تُمَكِّنٌ البشرية من استثمار الموارد المائية المختزنة فعلاً في منطقة وشاح الأرض بشكل يعود بالفائدة على الإنسانية وعلى المعرفة المثلى لتاريخ كوكب الأرض. كما لايزال العلماء يجرون الدراسات الجادة التي قد تساعد، بناءً على هذا الاكتشاف، تحديد الأماكن التي تحتوي على المياه المغذية من باطن الأرض للمحيطات أو حتى الموجودة في كواكب أخرى في الكون.
** **
المصادر
1.Huang, X., Xu, Y., الجزيرةamp; Karato, S., 2005, Water content in the transition zone from electrical conductivity of wadsleyite and ringwoodite. Nature, 434, PP. 746-749.
2. Yoshino, T., Matsuzaki, T., Shatskiy, A., الجزيرةamp; Katsura, T., 2008, The effect of water on the electrical conductivity of wadsleyite: Implications for the electrical structure of the mantle transition zone, Earth and Planetary Science Letters, 274, PP. 471-479.
3. Karato, S., 2011, Water distribution across the mantle transition zone and its implications for global material circulation, Earth and Planetary Science Letters, 301, PP. 413-423.
4. Hirschmann, M.M., الجزيرةamp; Kohlstedt, D.L., 2012, Water in Earth»s mantle. Physics Today, 6 4, PP. 40-45.
5. Brandon Schmandt, Steven Jacobsen and Kenneth G. Dueker, Dehydration melting at the top of the lower mantle,2014, science, Vol 344, No.6189, pp. 1265-1268.
6. Pearson, D.G., Brenker, F.E., Nestola, F., McNeill, J., Nasdala, L., Hutchison, M.T., ... الجزيرةamp; Chinn, I.L ,2014, Hydrous mantle transition zone indicated by ringwoodite included within diamond, Nature,507, PP. 221-224.
7. Martha G. Pamato et. al.,2022, Hydrous peridotitic fragments of earth mantle 660 km discontinuity sampled by a diamond, Nature Geoscience, 15, PP. 950-954.
8. Helen wang, et, al, 2025, Hydrous regions of the mantle transition zone lie beneath areas of continental intraplate volcanism, Geochemistry, 26, Issue 3, abstract.