د.حادي العنزي
ودّعت الصحافة السعودية الأستاذ سعود العتيبي، مدير تحرير مجلة «اليمامة» سابقاً، الذي رحل بصمت، تاركاً وراءه إرثاً مهنياً ثرياً، وسيرة إنسانية عطرة، وذكريات لا تُنسى في قلوب من عرفوه وتعاملوا معه عن قرب.
كان لقائي الأول به قبل حوالي خمسة وعشرين عاماً، في مبنى «الغالية» جريدة الجزيرة، عندما انضم إليها لفترة وجيزة جداً، ولم تمتد زمالتنا طويلاً في الجزيرة، إلا أنها عادت وازدهرت عندما عملنا معاً في مجلة اليمامة.
زاملت سعود العتيبي، ثم أصبحنا أصدقاء، ورغم تقاعده ورحيلي عن ميدان الصحافة، بقيت أواصر تلك الصداقة متينة، حيث تتجدد لقاءاتنا في المناسبات وغير المناسبات، كما لو أن الزمن يعجز عن إضعاف ما نسجته الأيام بيننا من ودّ واحترام.
ومن يعرف سعود لا يمكن أن يُفرط في صداقته، فقد كان إنساناً نقياً طاهراً، نادر الصفات في زمننا هذا. بشهادة الجميع، كان محبوباً بلا استثناء، مُتميزاً في مهنيته، متواضعاً لا يسعى للأضواء. ظهرت على يديه أسماء صحفية لامعة، خاصة في مجالي الرياضة والشعر، حيث كان الداعم الأول لزملائه، يتابع العمل معهم بصمت، ويقدم لهم العون بإخلاص، بعيداً عن أي ضجيج أو تعالٍ. وما يميزه أكثر، أن هذا السلوك النبيل نادراً ما تجده في بيئة الأقسام الصحفية الرياضية، التي تتسم غالباً بالتحيز لنادٍ معين على حساب نادٍ آخر، وربما يكون بين الزملاء أيضاً!
لم يكن مكتبي يبعد عن مكتب الزميل سعود -رحمه الله- سوى عدة أمتار، ولم أسمع مرة واحدة صوته عالياً، أو أره يوبخ زميلاً أو ينهره. كان لطيفاً ودوداً مع الجميع، وكثيراً ما كنت أراه يُراجع ويدوّن على «بروفات الصفحات» قبل نشرها، وهو يُعدل بخطه المميز وطريقته الغريبة في شد «غطاء» القلم بأسنانه.
كان رحمه الله كثيراً ما يُحرج زملاءنا أثناء تنفيذ الصفحات، فإذا لم يجد كرسياً يجلس عليه، كان يجثو بركبتيه على الأرض، مُنحنياً بجسده إلى الأمام، في مشهدٍ يُعبر عن أسمى صور التواضع. وبرغم قامته الطويلة التي كانت تعكس الهيبة، إلا أن هذا السلوك كان يُظهر عمق إنسانيته ورقي أخلاقه، ليترك في النفوس أثراً لا يُمحى عن رجلٍ عاش شامخاً بتواضعه وسمو روحه.
استطاع سعود العتيبي أن يُحافظ على توازنٍ نادر بين المهنية العالية والإنسانية الراقية في عالم الصحافة، الذي يتميز بالمنافسة الشديدة والضغوط الكبيرة. فهو لم يكن يرى الصحافة مجرد وظيفة، بل رسالة سامية تستحق التفاني والإخلاص.
لم أسمع زميلاً استاء من تصرفاته أو قدح في مهنيته. وكان يتفوق على الجميع في كتابة عناوين الغلاف، ومعظم العناوين الرئيسية الجاذبة كانت بصمته ومن إبداعاته.
عرفت سعود العتيبي بنقاء سريرته وصفاء قلبه، وكان مثالاً للإنسان الذي لا تعكر صفو قلبه ضغينة.
في زمن تتضارب فيه المصالح وتتشابك فيه العلاقات، كان بسيطاً عفوياً، لا يعرف المكر ولا يجيد المناورة، بل كان صريحاً صادقاً، واضحاً في مواقفه، ودوداً لطيفاً، صاحب ابتسامة دافئة، ينتقي كلماته بعناية حتى لا يجرح أحداً. لا يمكن أن يطعنك في ظهرك أو يتآمر عليك في غيابك، ولن تجد في قلبه إلا الخير.
لقد تجسدت في سعود العتيبي شهامة البدوي الأصيل في أجمل صورها. فقد كان نبيلاً حتى مع من يسيئون إليه، يرد الإساءة بالصفح والعفو، ولم يكن صديق المصلحة أو الظرف، بل كان صديق العمر الذي تجده إلى جانبك في كل الأوقات.
سعود الذي عرفته زميلاً وأخاً وصديقاً، لم تلوثه المهاترات، ولم تشوهه الخصومات التي كانت حوله. عاش حياته المهنية والشخصية وفق مبادئ راسخة يعتز بها.
لقد ترك سعود وراءه مدرسة في الأخلاق والقيم، ونموذجاً في النبل والشهامة، ومثالاً في الوفاء والإخلاص. علّمنا أن النجاح الحقيقي ليس في المناصب التي نصل إليها، بل في القلوب التي نؤثر فيها. وأن الخلود الحقيقي ليس في الأموال التي نجمعها، بل في الذكرى الطيبة التي نتركها.
نسأل الله أن يتغمده بواسع رحمته، ويسكنه فسيح جناته، ويجمعنا به في مستقر رحمته.
و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.