عبدالوهاب الفايز
العدوان الإرهابي الإسرائيلي على قطر وإنكار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب معرفته المسبقة به يذكر بما هو معروف في عالم السياسة الدولية، بـ:»الإنكار المعقول» (plausible deniability). يبدو أن هذه أداة إستراتيجية قوية تسمح للقادة بتنفيذ سياسات جريئة دون تحمل المسؤولية المباشرة، وطبيعي وجود من تُلقى عليه المسؤولية.
هذه التقنية لها سوابقها في الأداء السياسي الأمريكي، فقد استخدمها الرئيس رونالد ريغان خلال فضيحة إيران-كونترا في الثمانينيات، وسمحت له بنفي علمه بالبيع غير القانوني للأسلحة إلى إيران وتحويل الأموال إلى المتمردين في نيكاراغوا، مما أعطى المساحة لتنفيذ أجندته دون عواقب فورية.
وهناك حالات أخرى معروفة ومتداولة في التاريخ الأمريكي لاستخدام الإنكار المقبول، إذ لم يقتصر على ريغان وحده، بل استخدمه أو استفاد منه رؤساء أمريكيون قبله وبعده، خصوصًا في القضايا الأمنية والاستخباراتية. جون كينيدي استخدمه في غزو خليج الخنازير ضد كوبا عام 1961، اعتمدت إدارته على وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) لقيادة العملية باستخدام منفيين كوبيين. كينيدي ترك «مسافة» رسمية بينه وبين التخطيط المباشر، بحيث لو فشلت العملية (وفشلت فعلًا) يمكنه إنكار مسؤوليته المباشرة.
أيضا ريتشارد نيكسون (1969- 1974) في فضيحة ووترغيت، حاول استخدام الإنكار المقبول عبر الإيحاء أن عملية الاقتحام تمت دون علمه، لكن تسجيلاته الصوتية (الـ»نيكسون تيبز») فضحت معرفته المباشرة.
هنا نرى حدود التقنية: تنجح طالما لا تظهر أدلة قاطعة. كذلك استثمره ليندون جونسون (1963- 1969) خلال تصعيد حرب فيتنام، خصوصًا بعد حادثة خليج تونكين 1964، تم تضخيم أو تحريف بعض التقارير الاستخباراتية. جونسون استفاد من صياغة الأحداث بطريقة أعطته غطاءً سياسيًا، مع قابلية لإنكار معرفته بالتفاصيل الدقيقة.
جورج بوش الأب (1989- 1993) قبل رئاسته، كان مديرًا لوكالة الاستخبارات المركزية. خلال فضيحة إيران-كونترا عندما كان نائبًا للرئيس ريغان، استخدم مساحة الإنكار المقبول مدعيًا أنه لم يكن على علم كامل بالتفاصيل. ولاحقًا كرئيس، في حرب الخليج الأولى، كانت بعض عمليات الوكالة والغارات السرية تُدار بطريقة تتيح للرئيس إنكار أي دور مباشر. إجمالًا: الرؤساء الأمريكيون غالبًا يتركون العمليات الأكثر حساسية (انقلابات، اغتيالات، تجسس) في يد الاستخبارات أو وزارة الدفاع بآليات الإنكار المقبول. هذه التقنية شائعة لأن النظام الأمريكي يعتمد على فصل المسؤولية، مما يسمح للرئيس التمتع بالقول: «لم أكن أعلم بالتفاصيل».
اليوم، في سياق التوترات الإقليمية المتصاعدة في الشرق الأوسط نرى حالة مشابه مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والغارة الإسرائيلية على قطر في 9 سبتمبر 2025، ويبدو أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الارهابي بنيامين نتنياهو يستثمر هذه الأداة لتحقيق أجندة طويلة الأمد: (إسرائيل الكبرى) كمجال حيوي جديد للأمن القومي الإسرائيلي.
وهنا نرى صورة أخرى لتداخل الدعم الأمريكي الضمني مع الطموحات الإسرائيلية المتطرفة.
ونوايا نتنياهو هذه ليست جديدة، بل هي معلنة، والآن ومع سيطرة اللوبي الصهيوني على السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط يجد نتنياهو (فرصته الذهبية) لتنفيذ مرحلة مهمة للمشروع الصهيوني في المنطقة.
في تصريحات حديثة وفي بعض الكتب المنشورة سابقاً يتبنى بنيامين نتنياهو رؤية (إسرائيل الكبرى» (Greater Israel)، والتي تنص على توسيع الحدود الإسرائيلية لتشمل أراضي فلسطينية محتلة وأجزاء من دول مجاورة مثل الأردن ولبنان وسوريا ومصر، بناءً على تفسيرات تاريخية توراتية. هذه الرؤية مستمدة من الصهيونية الإصلاحيه أو التنقيحية (Revisionist Zionism)، التي يرتبط بها نتنياهو من خلال حزب الليكود وتراث والده، وهي حركة صهيونية يمينية متشددة تقوم عليها دعائم السياسة الإسرائيلية الحالية، خصوصًا في ما يتعلق بالاستيطان ورفض حل الدولتين.
مازلنا نتذكر مقابلة الإرهابي نتنياهو مع قناة i24 News الإسرائيلية في 12 أغسطس 2025، حيث عبر عن دعمه الصريح لرؤية إسرائيل الكبرى. وقد كشف ما في صدره عندما سُئل عن ارتباطه بهذه الرؤية، قال: «نعم، أشعر بارتباط تاريخي وروحي بهذه المهمة.. إذا سألتني إن كنت أشعر أن هذه مهمة تاريخية وروحية، فالإجابة نعم». ويعتقد أن جيله مسؤول عن ضمان بقاء الدولة اليهودية. وعدة مرات أشار نتنياهو إلى أنه في (مهمة تاريخية وروحية) لتحقيق رؤية إسرائيل الكبرى، ووصفها بأنها تشمل «الأرض الموعودة» (Promised Land)، مع رفض صريح للتقسيم أو الدولة الفلسطينية. كما عرض خريطة إسرائيل الكبرى في خطاب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2023، والتي تضمنت الأراضي المحتلة كجزء من إسرائيل، مما يُفسر كتأكيد على هذه الرؤية.
وتدعم محتويات كتب نتنياهو هذه الرؤية بشكل غير مباشر، من خلال رفض التنازلات عن الأراضي وتأكيد الحاجة إلى «عمق استراتيجي» للأمن القومي.
في كتاب مكان بين الأمم يعبر نتنياهو عن عدم ثقته في العرب ويؤكد أن السلام يتحقق فقط من خلال عرض قوة إسرائيلية ساحقة. يصف رؤية للوطن اليهودي تتجاوز الحدود الحالية، مع رفض الانسحاب من الأراضي المحتلة، معتبرًا إياها ضرورية للبقاء. يُفسر المحللون هذا كدعم لـ»إسرائيل الكبرى»، حيث يركز على الحق التاريخي في «الأرض الكاملة»
أيضا، وفي كتاب سابق نشر في العام (1995) بعنوان (مكان تحت الشمس)، يرسم نتنياهو رؤية شاملة لإسرائيل كدولة قوية، مع التركيز على التوسع الاستيطاني والسيطرة على الأراضي لمواجهة التهديدات الإقليمية. يُعتبر هذا الكتاب دليلاً على أجندته الطويلة الأمد، حيث يربط بين الأمن القومي والحقوق التاريخية في المناطق المتنازع عليها.
في سيرته الذاتية المنشورة عام Bibi: My Story (2022) يعيد نتنياهو تأكيد التزامه بحق إسرائيل للدفاع عن حدودها التاريخية، ويناقش رفضه لأي تنازل عن الضفة الغربية أو غزة، مما يُرى كامتداد لفكرة (إسرائيل الكبرى)، وهذا يفسر تدخلاته الحالية لإيجاد دولة مستقلة للأقليات في شرق وشمال سوريا.
كل هذا الفكر الصهيوني المبني على أجندة توسعية، يفسر توسع الحرب في غزة وتوسع الاستيطان في الضفة الغربية، ويفسر الجرأة على العدوان (الانتهاك الغادر) لسيادة دولة قطر.
هذا الاعتداء على قطر لم يكن مجرد تصعيد عسكري، بل اختبار للعلاقات الإقليمية، خاصة مع وجود قاعدة العديد الجوية الأمريكية في قطر - أكبر منشأة عسكرية أمريكية في الشرق الأوسط، مزودة بأنظمة رادار متقدمة كانت من المفترض أن تكتشف الطائرات الإسرائيلية الـ15 المشاركة. انه اختبار للمصداقية الأمريكية التي سمحت وسهلت مهمة العدوان ثم: أنكرت واحتجت!
وهنا يبرز دور ترامب في ممارسة الإنكار المعقول. علنًا، عبر ترامب عن «إحباط عميق» و»غضب» من الغارة، مشددًا في مكالمة هاتفية مع نتنياهو أنها «لا تعزز أهداف إسرائيل أو أمريكا»، وأصر مسؤولو إدارته على عدم إخطار الولايات المتحدة أو مشاركتها.
هذا التراجع العلني يشبه تكتيكات ترامب السابقة، مثل خلال أحداث 6 يناير 2021 في الكابيتول، حيث شجع الأفعال غير مباشرة ثم نفى المسؤولية.
ومع ذلك، العوامل الظرفية تشير إلى تمكين أمريكي ضمني: قبل أيام قليلة، أصدر ترامب اقتراحًا يضغط على قادة حماس للاجتماع في الدوحة، مما جعلهم أهدافًا سهلة. كما أفادت وسائل إعلام إسرائيلية مثل «جيروزاليم بوست» بأن واشنطن «أعطت الضوء الأخضر» للعملية، رغم نفي ذلك رسميًا. التطورات الأخيرة تعزز هذا النمط. هذا الإنكار يسمح لترامب بموازنة دعمه الثابت لإسرائيل مع الحفاظ على علاقاته مع قطر، الحليف الرئيسي في الوساطة، دون أدلة قاطعة على تورطه المباشر.
يُشكل الإنكار المعقول جسرًا بين ترامب ونتنياهو، ويحقق تمكين متبادل لهما. يوفر لترامب غطاءً دبلوماسيًا لدعمه غير المشروط لإسرائيل، بينما يمنح نتنياهو مساحة حركة ومناورة لتنفيذ الأجندة المتطرفة. هذا النمط ليس جديدًا؛ إنه أداة سياسة خارجية أمريكية تاريخية لتمكين الحلفاء من التصرف بقوة، ثم النأي بالنفس للحفاظ على المرونة.
ما هي الآثار والمخاطر المستقبلية للإنكار المعقول؟
مع استمرار الصراع في غزة والتوترات الإقليمية، هذا النهج يحمل مخاطر عالية: عزلة إسرائيلية محتملة إذا تصاعدت الغارات، وتآكل مصداقية أمريكا في المنطقة إذا ظهرت تسريبات صريحة عن التواطؤ. والعدوان على قطر سيكون تذكيرًا لقيادات وشعوب المنطقة بتكلفة الثقة الزائدة في النوايا الأمريكية. في سبيل مشروع «إسرائيل الكبرى» قد تشعل حكومة الإرهابيين الإسرائيلية الحالية حريقًا إقليميًا أوسع.
في النهاية، استمرار الرئيس دونالد ترامب باستخدام الإنكار المعقول سوف يعزز أجندات نتانياهو طويلة الأمد، ولن يهدد امن المنطقة وحدها، بل يهدد الاستقرار العالمي إذا لم يُواجه بمساءلة حقيقية عمليه وليس فقط (التوسل) للمجتمع الدولي، والصراخ على منبر الأمم المتحدة، وهذا ما تريده أمريكا وإسرائيل!