نجلاء العتيبي
حين يبدأ الطفلُ رحلتَهُ في المدرسة يخطو أُولى خطوات الاستقلال الجزئي عن البيت، ويعيش مواقف يومية بسيطة تترك أثرَها في تكوين شخصيَّته، ومن بين هذه المواقف المصروفُ المدرسيُّ الذي لا يُعطى للإنفاق فقط، وإنما فرصة ليُجرِّب الطفل كيف يُنظِّم ما يملكه، ويتعلم تدريجيًّا معنى الاعتدال، وحسن الاستخدام.
فتحديدُ مصروف ثابت للطفل خطوةٌ واعيةٌ يقصد بها الوالدانِ تنميةَ إحساسه بالمسؤولية، وإكسابه وعيًا مبكرًا بأن المال ليس لعبة بين يديه، بل قيمة لها دور في حياته اليومية، والمصروف المدرسي بهذا الشكل يُصبح أداةً تعليميةً غير مباشرة يتدرَّج من خلالها الطفل نحو فهم أن المالَ موردٌ ينبغي التعامل معه بعقلانية.
فكثير من الآباء يظنُّون أن المحبة تعني تلبية كل طلبٍ، وأن الكرم يُقاس بزيادة العطاء؛ فيغمرون أبناءهم بالمصروف بلا تقدير للعواقب؛ فينشأ الطفل وهو يتعامل مع المال وكأنه حاضر دائمًا لا ينقطع، أما التربية الرشيدة فتُظهر للطفل أن المال محدودٌ بطبيعته، وأن التصرُّف الواعي فيه يُحقِّق له الراحة، بينما الإسراف يحرم صاحبه من الاستفادة لاحقًا.
فالمصروف المدرسي يُتيح تجربة عملية واضحة، إن أنفق الطفل مبلغه كله في بداية الأسبوع، فإنه يتعلَّم أن ينتظر حتى يحين الموعد التالي، وهناك يكتشف أن التسرُّع يجلب ضيقًا، وأن حسن التدبير يضمن استمرار حاجاته، هذه الخبرة اليومية الصغيرة تُغنيه عن كثير من النصائح النظرية؛ لأنها تترسَّخ في نفسه بالمعايشة لا بالكلام فقط.
وفي نهاية كل أسبوعٍ يُمكِن للوالدين أن يفتحا باب الحوار مع الابن، فيسألانِهِ: كيف أنفقت؟ ماذا أبقيت؟ ما الشيء الذي تعلَّمته؟ مثل هذا الحديث يجعل المصروف أداةً للتواصل؛ ويمنح الطفلَ فرصةً للتأمُّل في اختياراته؛ فيدرك أن المال ليس مُجرَّد وسيلة للشراء، بل عنصر يرتبط بالقيم والوعي والاحترام.
فالاعتدال في المصروف قيمة جوهرية، والتقتير المفرط يُولِّد شعورًا بالنقص، والإفراط يجعل الطفل يستخفُّ بما بين يديه، أما التوازن فهو ما يزرع في داخله ميزانًا سليمًا يجعله ينظر إلى المال بإنصافٍ، فيفرح بما عنده دون مبالغةٍ، ويستخدمه دون تهوُّر، فالتربية في جوهرها ليست حرمانًا ولا قسوةً إنما مزيجٌ من الحنان والانضباط.
وحين تُحدِّد الأسرة مصروفًا مناسبًا للطفل فهي تقول له ضمنًا: نثقُ بك، ونمنحك حرية التصرُّف في حدود واضحة، هذه الحرية الموجَّهة تُساعده على تكوين شخصية متوازنة، وتُعلِّمه أن كل حقٍّ يقابله واجبٌ، وأن حُسن التعامل مع ما بين يديه هو الطريق إلى الاعتماد على نفسه.
فالمصروف الموجَّه بهذا الشكل يُصبح تدريبًا عمليًّا على الموازنة بين الرغبات والاحتياجات، والطفل الذي يتعلَّم كيف يختار، وكيف يُؤجِّل، وكيف يُقارن بين ما يرغب به وما يحتاجه فعلًا، يكبرُ وهو أقدرُ على اتخاذ قرارات مالية وحياتية أكثر وعيًا.
وليس المقصود من المصروف أن يُساير رغبات وقتية، وإنما أن يكون وسيلةً لتعليم الطفل كيف يتعامل مع الموارد بوعي ومسؤولية، فكل قرار بالإنفاق أو الادخار يُشكِّل درسًا حيًّا يبني في داخله خبرة جديدة، ويُريه أن الحرية ليست فوضى، وإنما التزام وانضباط.
وهكذا يُصبح المصروفُ المدرسيُّ وسيلةً تربويةً تنقل المحبة من شعور عاطفي إلى سلوك ملموس، وتُحوِّل التوجيه النظري إلى خبرة يومية تترك أثرًا ممتدًّا في بناء شخصية متزنة قادرة على مواجهة الحياة بثقة ووعي.
ضوء
«المصروف المدرسي إشعار مبكر بأن الاستقلالية لا تنفصل عن الانضباط، وأن الوعي يكتمل حين يتعلَّم الطفل الاختيار».