د. شاهر النهاري
بالروح التي تنسج بها الذكرى خيوطها، وبالحنين الذي يوقظ فينا ما نظن أنه نام، نقف اليوم أمام صندوقٍ صدئ بابه، لكنه ما زال يطرق على قلوبنا، يوقظ فينا زمناً كانت فيه الحروف تُرسل لا لتُقرأ فقط، بل أنفاس تُعاش.
في زاويةٍ من زوايا الحنين، يقف صندوق بريد الصحيفة القديم، ذلك الهيكل الحديدي الصامت، المثبّت على جدارٍ نسيه الزمن، لكنه لم ينسَنا.
كان يومًا ما بوابةً لعالمٍ من الدهشة والمعرفة، نافذةً تطل منها الكلمات على أعيننا والصور على أرواحنا، وتدخل بلا استئذان إلى غرف القلب.
كنا ننتظر الجريدة كما ينتظر العاشق رسالةً من محبوبه.
نترقب وقع الخطى على الرصيف، ونصغي لصوت الورق وهو يُسحب من الصندوق، كأننا نُخرج منه نبضًا جديدًا ليشعل خمول اليوم.
نذهب بها إلى مكانٍ هادئ، نفردها مساحات، نقرأها كما تُقرأ القصائد، نُدقق في العناوين، نُبحر في المقالات، نبتسم لمناطق السخرية، نتصفح مقابلات المشاهير، ونُجادل الأخبار الرياضية وكأننا جزء من الفريق.
كنا نعتصر رحيق الأوراق، نُقلّب الصفحات ننبشها، حتى لا تبقى نقطة إلا وقد أحطنا بها، ثم نطويها لغيرنا، وكم نحتفظ بها، مرصوصة في درجٍ خاص، أو نتركها على الطاولة كأنها جزء من ديكور ثقافة الروح.
كانت الجريدة تُقرأ بكامل الجسد: بالعين، واليد، والذراع، والأنف، وحتى بشغاف القلب.
رائحة الورق مميزة، نعومة أو خشونة الصفحات دليل، صوتها حين تُطوى، كل ذلك كان جزءًا من طقسٍ يوميٍّ لا يُنسى بتحفيز رفيقه فنجان الشاي، والتمتع بعصائره الكوكتيل، وطعم قهوته المميزة.
واليوم، حين نخرج من عتبات بيوتنا، نقف ولو لوهلة أمام ذلك الصديق المهجور، والصندوق القديم الحزين.
ننظر إليه في وحدته، نتمنى أن نزيل عنه تراكم الغبار، ونتساءل عما يحمل بجوفه، ونتذكر أننا قد فقدنا مفتاحه، الذي كان محفوظًا في سلاسل القلب.
ماض لم نعد نحلم بعودته، ولا بما كان يحمله لنا من سعادة وحروفٍ، وأخبار، وفن، وأدبٍ وسياسةٍ ودهشة. وها نحن اليوم نقف بجانبه عبرة، ولا ننتظر شيئًا منه، فهل يا ترى ما زال ينتظرنا لننقذه من حضارة كاسحة تتعمد إزاحته من فوق الجدار، كنوع من الترقي.
واقعا وتأثير حضر وعدى، فلم يكن صندوق الجريدة مجرد ممر للأوراق، بل كان مرآةً للزمن، وشاهدًا على آلية، ولحظاتٍ كنا فيها أكثر هدوءا وإنسانية، أعظم شغفًا، أعمق صبرًا وتميزا في أفكارنا وتوجهاتنا.
كان صندوق عجائب يحمل إلينا العالم في طياته التي نوجهها بالتصفح، وبالحبر يرتسم على ثيابنا، لا بضغطة زر، بل بدقة وانتظارٍ يشبه الاستعداد للصلاة، وقراءةٍ تشبه الترتيل والتأمل.
حياتنا اليوم، التي لا يفهمها ولا يتخيلها أهل الجيل الجديد، ليست بانتقاء الأفضل ولا الأسوأ، ولكنها معرفة مختلفة، وآفاق متباعدة، تتوق لتأقلم أحد الجيلين مع الآخر.
حياة أصبحنا فيها نتصفح الأخبار بالصوت والصورة، وبإرهاصات الدعايات المزعجة، حتى ونحن نختبئ تحت أغطية الراحة، نقرأ المقالات على شاشات مضيئة، أو صيغ مسموعة، نتشاركها بضغطة زر، ونُعلّق عليها بكلماتٍ سريعة، ما يجعلها مكررة قديمة!
وتبعا لتخطي سدود السنين، فنحن نحاول التوازن، ولا يمكن أن ننقص من زمن الصحف، ولا أن نمجّده في حياة المواقع الخضراء والملتهبة، فلكل زمنٍ متطلباته وحاجاته ونكهته، ولكل وسيلةٍ طريقتها في الوصول إلى القلب، أو في الذهاب بعيدا بالمعاني والمشاعر، ولكن الورق يحتاج منا ولو لإشادة.
نحن بشر نستمرئ النسيان، ولكنا مجبولون على استعادة الذكرى، والبكاء على الأطلال، ونثر الحنين على خطوات تشدنا للماضي، وتجعلنا ولو لدقائق تمل وننكر جماليات التحولات الحديثة، التي نعيشها.
ذاك زمانٌ وانقضى، ولا يمكن لنا كمحبين للثقافة أن ننثر التراب على رؤوسنا ونحن نقرأ نحيبنا ونتخيله لحدا أسود، لمجرد أن الصندوق أصبح مهجورا.
الحياة تمضي، ومن يشهد شمس الصباح، تجهر عينه أشعة الظهر، ويظل ينتظر بوادر المساء وجماليات شمعة الظلمة، نهرب من القيظ، وننكمش حول الجمر في ليلة باردة.
ولكل زاويةٍ طموح عاشق ومعشوق، وكاره وضجر، ومؤيد وناكر وناقد، وشخص لا يكترث بتعاقب الفروق.
لكن وحده من يكتب وجدا عن صندوقٍ حديديٍّ مثبتٍ على جدار، يمتلك مشاعر الحنين وينكر الجحود، ولعله دون أن يأتيه زوارٌ إشباع لسنواتٍ عديدة، هو من يرى في الجماد روحًا، وفي الذكرى حياة، وفي التعود وطنا، وفي الحنين فلسفةً لا تُدرّس.
فيا صندوق الجريدة المهجور، يا حارس الحروف المضيئة القديمة، يا شاهدًا على زمنٍ عنفوان كان فيه الورق يُقرأ كما تُقرأ خبايا الأرواح، لا تحزن.
فما زال هنالك مغرم ينظر لوقفتك الحزينة، ويكتب عنك البديع، ويشتاق إليك، ويؤمن أن معاناة الحروف حين تُمسك باليد، تلامس القلب أكثر مما تفعل الشاشات.