عبدالوهاب الفايز
يبدو أن منطقتنا قدرها مواجهة مصيرها الوجودي الذي فرضه مشاريع إسرائيل الصغرى والكبرى وربما العظمى. وهذا يجعلنا مجذوبين ومشدودين غصبا للمواضيع الوجودية الأساسية رغم مرارتها، بالذات ونحن نرى قائمة الشهداء في غزة تطول وتطول كل يوم! والمؤلم موقف الإعلام الغربي الذي يدعي أنه نصير العدالة والحرية!
منذ اشتداد العدوان الإسرائيلي على غزة، درج الإعلام الغربي على افتتاح مقابلاته بسؤالين متكررين. الأول يوجَّه بصيغة شبه متطابقة: ما رأيك في هجوم السابع من أكتوبر على إسرائيل، وهل تعتقد أنه الأخطر منذ الهولوكوست؟ أما الثاني فيُطرح غالبًا على المسؤولين العرب أو المسلمين: لماذا تقولون إن ما يحدث في غزة إبادة جماعية؟
السؤال الأول يبدو أقرب إلى (طقسٍ واجب!)، غايته تسجيل موقف داعم لإسرائيل وإثبات التعاطف معها. وهذه الحالة تعكس ضغوطًا واسعة في الأوساط الإعلامية والسياسية الغربية، حيث يُلاحق ويُحاصر كل من يُبدي تعاطفًا مع ضحايا غزة.
أما السؤال الثاني، فله دلالة أعمق؛ إذ يكشف مأزقًا ذهنيًا وثقافيًا في الوعي الغربي، أكثر مما يعكس رغبة في فهم الموقف العربي. فالتردد في الاعتراف بالإبادة يفضح بقايا عقلية تشكلت على التفوق العرقي والحضاري للرجل الأبيض، وهو ما يجعل من الصعب على الإعلام الغربي الإقرار علنًا بأن إسرائيل تمارس اليوم أبشع الجرائم ضد الفلسطينيين.
هذا التردد ليس مجرد تحفظ لغوي أو حذر قانوني. صحيح أن مصطلح «الإبادة الجماعية» في القانون الدولي مصطلح ثقيل، يترتب عليه التزامات قضائية وأخلاقية، ويعيد إلى الأذهان محاكمات نورمبرغ ورواندا والبوسنة. لكن وراء هذا الحذر تختبئ قصة أعمق: الغرب ما زال يوجّه سلوكه ضمن إطار ذهني قديم هو: شرعية الاستعمار!
منذ القرون الأولى للتوسع الأوروبي، وُضعت مبررات فكرية وأخلاقية لتسويغ السيطرة على الشعوب الأخرى. جون لوك، وهو من رموز الليبرالية، كتب أن الأرض ملك لمن يزرعها ويطورها، ما فتح الباب للاستيلاء على أراضي الشعوب الأصلية في الأميركتين بوصفها «أرضًا بلا استخدام». الفيلسوف الألماني هيغل مضى أبعد، فاعتبر أن هناك «أممًا غير تاريخية» لا تنتج حضارة ولا تستحق السيادة. وفي القرن التاسع عشر، تبلورت فكرة «الرسالة التمدينية» التي اعتبرت استعمار أفريقيا وآسيا واجبًا أخلاقيًا.
لم تكن هذه الفلسفات مجرد تنظيرات، بل تحولت إلى سياسات عملية: إبادة السكان الأصليين في الأميركتين، إعلان أستراليا «terra nullius» أي أرضًا بلا مالك، وتقسيم أفريقيا في مؤتمر برلين وكأنها خالية من الشعوب. كان إنكار الآخر أو تجريده من إنسانيته شرطًا لاستمرار المشروع الاستعماري.
إسرائيل هي الابن الشرعي لهذه الحضارة الغربية. فالمشروع الصهيوني وُلد في أحضان تلك الذهنية الاستعمارية. شعار «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» لم يكن دعاية بريئة، بل إعادة إنتاج لفكرة الأرض الفارغة. في وعد بلفور عام 1917، نصت بريطانيا على دعم إقامة وطن قومي لليهود، ولم تذكر الفلسطينيين إلا بوصفهم «طوائف غير يهودية» في وطنهم. ومع قيام إسرائيل عام 1948، تُرجِم هذا الإنكار إلى سياسة عملية: النكبة، تهجير أكثر من 700 ألف فلسطيني، وتدمير مئات القرى.
المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابِه وثّق في كتابه التطهير العرقي في فلسطين (2006) ما سماه «الخطة د» التي أعدتها المنظمات الصهيونية لتهجير الفلسطينيين قسرًا. ويؤكد أن ما جرى لم يكن نتيجة حرب طارئة، بل مشروعًا متعمدًا للتطهير العرقي، جرى في ظل رعاية بريطانية وفّرت الغطاء وسهّلت الطريق. هذا الربط بين الاستعمار البريطاني والمشروع الصهيوني يوضح أن إسرائيل لم تكن انقطاعًا عن التاريخ الغربي، بل امتدادًا له.
ولا يمكن هنا إغفال أطروحات إدوارد سعيد، الذي شرح في كتابه (الثقافة والإمبريالية) كيف لعبت الرواية والشعر والأوبرا دورًا في تطبيع الاستعمار وتجميل صورته. من جوزيف كونراد في «قلب الظلام»، إلى جين أوستن في «مانسفيلد بارك»، كان حضور الإمبراطورية شرطًا من شروط الرفاه الأوروبي. هذه الثقافة صاغت اللاوعي الغربي بحيث بدا الاستعمار أمرًا طبيعيًا ومبررًا أخلاقيًا. واليوم، يعمل الإعلام الغربي داخل هذا الإرث الثقافي الممتد: يرى الآخر أقل شأنًا، ويتردد في وصف معاناته بالمصطلحات الكبرى.
حين يواجه الصحفي الغربي صور الدمار في غزة، يتردد في استخدام كلمة «إبادة»، وكأنها أكبر من أن تُمنح لضحايا لا ينتمون إلى الغرب. في لاوعيه ما زال هناك تصور بأن حياة الغربي مركزية، وحياة الشعوب الأخرى قابلة للتجاهل أو التضحية. ولهذا يُختزل موت آلاف المدنيين الفلسطينيين بعبارة «أضرار جانبية»، بينما يُعدّ سقوط ضحية واحدة في أوروبا أو أميركا مأساة تهز الضمير العالمي.
وكما أشرنا الأسبوع الماضي، أن الزمن تغيّر. لم يعد ممكنًا احتكار السردية كما كان في الماضي. وسائل التواصل الاجتماعي كسرت الحواجز، والعالم كله يرى ما يجري في غزة بلا وسيط. الصور لا تحتمل التجميل ولا التبرير. وهذا ما يجعل مأزق الإعلام الغربي أكثر حدة: فالتردد لم يعد يحمي إسرائيل، بل يفضح ازدواجية الغرب، ويكشف عجزه عن التحرر من إرثه الاستعماري.
يبقى السؤال الجوهري: هل الغرب مستعد لمواجهة هذا الواقع؟ الاعتراف بما يجري في غزة كإبادة جماعية يعني نسف أحد أعمدة السردية التي قامت عليها إسرائيل. فقبول هذا التوصيف يقرّ بأن المشروع الصهيوني لم يكن «عودة طبيعية» لشعب إلى أرضه، بل مشروعًا استعماريًا استيطانيًا إقصائيًا منذ بدايته.
إن ما يحدث في غزة ليس حربًا عادية، بل اختبار تاريخي للضمير الغربي. فإذا استمر الغرب في التردد، فهذا يعني أنه لم يتحرر بعد من عقدة التفوق الحضاري التي حكمت وعيه وشرّعت استعمار الشعوب. أما إذا قرر الاعتراف، فسيكون ذلك بداية مراجعة عميقة ليس فقط لدوره في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بل لأسس نظرته للعالم بأسره.
الحقيقة أن الشعوب لم تعد تنتظر تعريف الغرب أو اعترافه. فهي ترى الإبادة حيّة على الشاشات. وكلما تأخر الغرب في قول الكلمة، ازداد انكشافه الأخلاقي، وتأكد أن عقلية الاستعمار لم تخرج بعد من بنيته العميقة. لكن كما انتهى الاستعمار الكلاسيكي رغم كل قوته، فإن هذه العقلية محكوم عليها بالزوال، لأن التاريخ لا يرحم من يتجاهل إنسانية الشعوب وحقها في الحياة.
ورغم تكبر الصهاينة وغطرستهم، هناك بارقة أمل. المظاهرات الواسعة في العواصم الأوروبية والأميركية ضد الوحشية الإسرائيلية في غزة تعبّر عن ضمير حيّ داخل الغرب نفسه، وتؤكد أن البنية الاستعمارية ليست قدرًا أبديًا.
هذا الحراك الشعبي يضغط على الساسة، ويمهّد لتحولات أعمق. وعندما وقف نتنياهو في الأمم المتحدة ليجدد رفضه قيام دولة فلسطينية، كان يدرك أن الاعتراف الأممي بالدولة الفلسطينية ليس مجرد خطوة رمزية، بل لحظة تاريخية تعيد فتح ملف الجذور الاستعمارية للمشروع الصهيوني. رفضه المستمر للدولة ليس رفضًا سياسيًا فحسب، بل تمسّك بإنكار الآخر، وهو جوهر الفكر الاستعماري ذاته.
إن المأساة الفلسطينية اليوم تعيد إلى الواجهة سؤالًا قديمًا: هل يستطيع الغرب أن يتحرر من شرعية الاستعمار التي غذّت حضارته، أم أنه سيبقى أسيرها حتى في القرن الحادي والعشرين؟ الجواب لم يعد بيد الحكومات وحدها، بل بات بيد شعوب العالم التي ترى الحقيقة بلا وسطاء، وتدرك أن إنكار الآخر هو أصل كل المآسي.
عندما قدم إدوارد سعيد نقده الأدبي والثقافي لإبداعات الأدب والفن الأوروبي كان مرجعه هو ندرة من اعترضوا على مفهومي «الأعراق الخاضعة والادنى مكانة»، وغيرها. وهذا شكل نظرته السلبية للمحتوى الثقافي والفكري المُبرر للإمبراطورية والإمبريالية الذي تضمنته هذه الأعمال الأدبية والفنية. طبعا واجه موجة احتجاج من النخبة الفكرية والأدبية الأوروبية لأن هؤلاء النقاد نظروا للجماليات ولم يستوعبوا عمق المأساة الانسانية للشعوب المستعمرة، ولانهم «لُقنوا اداب اوطانهم المكرسة الكلاسيكية قبل ان يقرأوا اداب الآخرين»، ولذا تأسس لديهم «الولاء غير النقدي غالبا إلى أممهم وتراثهم فيما يزدرون الآخرين ويحاربونهم»؛ وهذا ربما هو حال الإعلام الغربي ومؤسساته الثقافية والفكرية.