أ.د.صالح معيض الغامدي
استمتعت وأفدت كثيرا من السيرة الذاتية الجميلة التي روتها الأستاذة سارة الخزيم بضمير المتكلم على لسان والدتها شيخة بنت راشد بن حمد بن داود، في كتاب لها بعنوان «أمي شيخة.. ذاكرة وطن».
ويبدو أن الأستاذة سارة كانت تقوم بتسجيل حكايات والدتها الشفوية في جلسات متعددة ثم، قامت بعد ذلك بتدوينها بعد الانتهاء منها في هذاالكتاب..
وُزعت مادة السيرة الذاتية في فصول بحسب الأماكن التي ولدت وأقامت فيها السيدة شيخة طوال حياتها التي تجاوزت التسعين، أطال الله في عمرها بالصحة والعافية. وهذه الأماكن أو الفصول هي: الضبيعة؛ والهياثم، ومشروع الخرج الزراعي، وفردان، والخرج، وفي مزرعة جوّ.
وقد بدأت السيرة بلازمة الحكي المعهودة « قالت والدتي»: واستمر تتابع سرد حكايات الأم شيخة وتجاربها الحياتية ومشاهدتها وخبراتها ومواقفها وفي بعض الأحيان، رؤاها حول المجتمع الذي عاشت فيه والعادات والتقاليد التي حكمت طبيعة الحياة التي عاشتها إلى آخر الكتاب.
أما في داخل كل فصل فقد تركت الأم شيخة لنفسها الحرية في سرد ما يرد على بالها من أحداث اعتمادا فيما يبدو على التداعي الحر، تداعي الموضوعات والأماكن والأشخاص، ولكن هذا التداعي لم يكن فوضويا كما قد يُعتقد، بل جاء منظما فيما أحسب، والسبب في ذلك التنظيم ربما يعزى إلى ما يمكن أن يكون مجموعة من الأسئلة والملحوظات التي كانت تطرحها الأستاذة سارة محررة السيرة على والدتها باستمرار مما ساعد على خروج السيرة بهذا الأسلوب المنظم إلى حد جيد بالنسبة لسيرة ذاتية شفوية.
وعلى الرغم من أن هذه السيرة الذاتية تحكي المعالم الرئيسة لقصة حياة الأم شيخة، إلا أن التركيز فيها انصب على العالم الخارجي المحيط بشيخة؛ أعني أسرتها الممتدة، وجيرانها ومعارفها وأقرباءها، وأفراد مجتمعها عموما، رجالا ونساء بنين وبنات.
كما اهتمت هذه السيرة الذاتية بتصوير طبيعة الحياة القاسية التي كان يعيشها أفراد المجتمع وتصوير كذلك مراحل النمو والإزهار التي عاشها فيما بعد في شتى مجالات الحياة ومناحيها.
ورغم أن السيدة شيخة كانت متحفظة إلى حد ما في سرد تفاصيل حياتها الخاصة، فإن في هذه السيرة قدرا كبيرا من الصدق فيما ورد فيها من حكايات، فمن الاعترافات الطريفة التي وردت في هذه السيرة حكاية زواجها الأول، تقول « عندما بلغت الثالثة عشرة -تقريبا- خطبني أحد الرجال، وكان في منتصف العمر، صاحب خلق ودين، وكنت صغيرة السن، فكان يقول لي في رمضان :( لا تصومين، كلي تمر، واشربي ماء، بس لا يشوفنّك النسوان)؛ لأني كنت صغيرة، لم أبلغ ما يبلغه النساء عادة، كان لطيفا، ولكني لم أحبه».
والحقيقة أن هذه السيرة مليئة بالمعلومات التاريخية والاجتماعية والتعليمية والحضارية …إلخ، كما أنها تصور كثيرا من العادات والتقاليد التي كانت مرعية في مجتمع صاحبة السيرة وبخاصة فيما يتعلق بالمرأة، وقد ركزت على سردها وذلك لكونها امرأة، ولذلك فقيمتها التوثيقية عالية جدا قد تفوق في بعض الجوانب قيمتها الأدبية. فقد أولت، على سبيل المثال، صاحبة السيرة مشروع الخرج الزراعي الذي بدأ عام 1354هـ وأثره في التنمية الزراعية والحياتية بشكل عام اهتماما بالغا، وكان وسيلة لاتصال مجتمع صاحبة السيرة بالعالم الخارجي العربي والأجنبي على حد سواء. ولذلك فلا عجب أن يكون العنوان الفرعي لهذا الكتاب « ذاكرة وطن» فهو كذلك حقا.
والحقيقة أن الكتاب حافل بكثير من الأحداث والتجارب الحياتية المتنوعة للسيدة شيخة أملتها على ابنتها الأستاذة الأديبة سارة الخزيم التي صاغتها بأسلوب سردي جميل وجذاب ولو أنها لم تظهر في سيرة والدتها بشكل كبير كما قد يتوقع، كونها هي التي تولت تدوينها.
إن هذا الكتاب الذي يمثل نموذجا جميلا من السير الذاتية الشفهية لكبار السن، جدير بأن نراه نموذجا متكررا في بلادنا، نظرا لما تتضمنه تجارب هؤلاء الأباء والأمهات والأجداد والجدات من دروس وعبر وحقائق حياتية متنوعة تفيد الأجيال القادمة وتمتعها، وتربط حاضرها بماضيها.
والحقيقة أن هذه السيرة هي من الثراء بحيث يصعب على القارئ الإحاطة بأبعادها التوثيقية والأدبية كلها في مقال صغير كهذا، فهي تستحق دراسة كاملة، بل ربما أكثر من دراسة، وبخاصة أن نظائرها من سير الأمهات الذاتية قليلة جدا في بلادنا، بل ربما كانت نادرة.
ولعل من المناسب أن أشير هنا إلى قصتين طريفتين أوردتها السيدة شيخة في سيرتها، الأولى تتصل بالشاعر عبدالرحمن بن قاسم الذي كان يعمل مترجما لرئيس البعثة الأمريكية في مشروع الخرج الزراعي المهندس سام لوجن، وكان عمله هذا يزعج بعض أهل البادية، لأنه يتحدث الإنجليزية ويترجم للنصارى، وفي أحد أيام الجمع تأخر الخطيب عن الصلاة، فاقترح أمير العياثم آنذاك في المسجد أن يتقدم عبدالرحمن قاسم ليخطب في الناس ويصلي بهم ، ولكن القاسم تفاجأ بأن المصلين انقسموا ثلاثة أقسام : قسم خرج من المسجد، وقسم كبر معه ثم انسحب، وقسم أكمل الصلاة معه حتى سلم. واستفتوا في ذلك الشيخ ابن باز يرحمه الله.
أما القصة الثانية فهي قصة سيدة تطلب الطلاق من زوجها لعدم قدرته على الانجاب فيستجيب طوعا لطلب زوجته ويطلقها، لكنها مع ذلك تشترط على زوجها الجديد النبيل أن تقوم بأعمال منزل طليقها في حين خروجه للعمل أثناء النهار، فيوافق.
وأختم هذا المقال بالاقتباس التالي الذي يلخص ربما موقف السيدة شيخة من الحياة التي عاشتها ويبين مدى اعترافها بالجميل للآخرين: « حياتي مثل حياة البشر في أنحاء الأرض تجمع بين لحظات السعادة والهناء والراحة، ويمر فيها لحظات حزن وقلق، لكني أحمل في نفسي الكثير من الامتنان لصاحبة السمو الأميرة سلطانة السديري زوجة خادم الحرمين الشريفين، فقد كانت تتصف بالطيب والعطف والتقدير والتواضع…. تتصل بي بين حين وآخر، وإذا سمعت صوتي تعرف إذا كنت قلقة أو متضايقة ….».