د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
هُنا على أرض الرياض الحبيبة ذاكرة المكان المترعة بالمعرفة والعبور المنظم للأزمنة الثقافية التي أصبحتْ ردهات معرض الرياض الدولي للكتاب 2025 تعج بكل من جاء إليها ينشد فضاءات المعرفة المكتوبة والمسموعة، فهناك تحفل أجنحة المعرض بوهج من كتب التراث والتاريخ والحضارة، وهناك توقفتُ حيث وجدتُ شيئاً مني فيها؟
نعم، لقد استوعب معرض الكتاب كل ذلك الضوء تليده وحديثه، أما المكان فما زال يستكين داخل إطاره المعتاد وأحسبُ أن لاسواه يحمل الكتب إلينا بذات الصيغة للمشهد الثقافي؛ فالكتاب أينما حل تندى به اللغات وتتهادى حوله قصائد الإطراء؛ ولذلك فحواسنا تحمل مهمات أخرى، وليس المكان فحسب، ونحن في دروب المعرض حين نبحث في ثنايا الزمن ومفاوز المكان عن شغفنا، فأعتقد أن لذلك النبض دلالات عظيمة على حياة الفكر المحلي والإقليمي والعالمي! فالرياض استضافتْ منذ الخميس الماضي الثاني من شهر أكتوبر من هذا العام 2025 ولمدة عشرة أيام تظاهرة ثقافية عملاقة، انسكب عليها وداد الرياض عاصمة بلادنا الحبيبة عندما نقلتْ كل مفرداتها الجميلة لترحب بالقادمين من أجل ثقافة الكتاب، وما يصاحبه من تنوع ثقافي والمعارف الحاضرة.
والرياض حين تقرأ، وهو شعار المعرض هذا العام (الرياض تقرأ)، تبدو مختلفة قشيبة جذلى، وترتحلُ معهم لتريهم إنجازاتنا في الآفاق إلى معرض فاخر للكتاب حوى واستوى؛ حيث كفايات المكان حطتْ هناك، وحيث يستفيق الذهن ويتماهى، وحيث تكيل وزارة الثقافة التنوع الثقافي برحيق مصفى؛ فبعد كل ارتياد للمعرض يعلو الصدى، فهناك رحلة نحو الكتاب! وإن كانت الثقافة وما زالت بتعدديتها وأوعيتها المرئية والمسموعة والمقرؤة، ومنصاتها المنبرية ليست رحلة بل بقاء مشهود يعلن انصهار ثقافاتنا الوطنية مع العالم؛ ففي معرض الكتاب تجذّرٌ ثقافي مبهرفي كثير من الملامح، فلقد احتفى معرض الكتاب بصناعة الفنون والآداب، وفي كل ذلك ولأجله عُقدتْ لقاءات وورش عمل مجزية وبرنامج ثقافي وفير جدير أُحسن انتقاؤه؛ ولقد بدا جلياً استقطاب المعرض للمزيد من الشرائح في المعرض وإليه؛ مما يؤكد أن المعرض بنسخته العصرية قد تجاوز النخبوية وانفتح فافتُتِح!
ومن اللافت الاهتمام الكبير بالوجيب الوطني السعودي، فلقد خصص المعرض منصات عرض لحزمة مضيئة من منجزات حضارتنا الحديثة، ومنجزنا الإنساني والمؤلفات السعودية التي بدتْ منافساً ودوداً، كما انتصبت دور النشر تعبق برائحة الورق ممتزجاً في بعضها بإخراج رقمي كذاكرة أخرى للكتاب، وبدا طيف سعودي واسع يملأ محاضن المعرض، وآخر عربي وعالمي، وجميع ذلك الاندماج يفرز شعوراً باللذة التي تسيطر على زوار معرض الكتاب حين يقبضون على مستجدات جديدة ويحملونها لكي تحملهم يوماً تقصياً وبحثاً وفضولاً مقبولاً.
وكل عام نستشرف ومن ثمَّ نرى في معرض الكتاب إضافات جديدة، والكل يتوق إلى مستراد متين للكتاب من أجل الإبداع، ومعرض الكتاب الدولي المتواشج مع سياسات الاندماج والمثاقفة التي ينشدها الوطن حقق هذا العام 2025 كثيراً من المستهدفات؛ فمعروضات الكتب منصة نقد صادقة لتقييم المنتج الفكري العقلي الذي تمتلئ به ردهات المعرض يجب أن يكون مختلفًا بل متواشجاً مع عزم قيادتنا تحصين نواتج بلادنا الفكرية من الخبن والهنات، وكذلك ما يُستضاف في معارض الكتب مما يماثلها؛ حتى تكون الساحة الثقافية في بلادنا منبرًا لنشر المبادئ المثلى، وإضاءة الفكر المجتمعي وشحذ الهمم للنهوض، حتى يستوعب محافل أخرى من صيد الأذهان المجزي، وقطوف الفكر وشذرات العقل، وقد بدتْ الإنتقائية البصيرة المحترمة والمقنعة في المعرض.
ومن المنطلقات القوية لتمكين صناعة الكتاب ترقية الذائقة وتعميق المكتسبات المعرفية الثقافية من الكتب وترقية الهدف من إقامة«معارض الكتب «حتى لا يُحسبُ وجودها من مصفوفات الترفيه فقط!؟ ليكون الهدف ترقية المعرفة من خلال مشروعات تخدم الكتاب وتقرّبه إلى الأجيال زُلفى!
ولقد توشح معرض الرياض الدولي هذا العام وشاحاً فاخراً نسجه برنامج ثقافي رصين انتُخبتْ موضوعاته بآلية مبصرة والمتحدثون كانوا أكفاء أبحروا في موضوعاتهم بسلام؛ حيث كان المعادل الموضوعي وفيراً حاضراً في مشارب الجمهور، ورغباتهم، وحدود التلقي، وتحققتْ من خلال المنبر الثقافي مثاقفة راقية وما زلنا نحتاج إلى صناعات ثقيلة للفكر من خلال الكتاب، يحيطها قدر كبير من الانفتاح على العالم، وأن يكون ذلك منطلقاً لصناعة مبتكرة للفكر المقروء من خلال الكتاب ليكون ذلك من محفزات ارتياد معارض الكتاب من قبل الأجيال في حاضرها ومستقبلها.
وكل عام ومعارض الكتاب في بلادنا آمالٌ لاتنقطع في تتمة حكايات الشغف بروائع المعرفة! وأحلام لا تُحصى؛ ومافتئ معرض الكتاب يمتلئ بتفاصيل الحضارة والمعرفة الإنسانية! ويزخر بكبرياء الميراث المعرفي وعرائس الأفكار ولا يزال..
يقول المتنبي:
أعزُّ مكان في الدنا سرج سابحٍ
وخير جليس في الزمان كتابُ