د. عبدالعليم غالب نصر مثنى
في عالم تتقاطع فيه المصالح وتتباين الضغوط، تبرز المواقف الثابتة كمعيار حقيقي للقيادة المسؤولة، وموقف المملكة العربية السعودية من قضية التطبيع مع إسرائيل يؤكد للعالم صلابة الموقف السعودي ووضوح رؤيته تجاه القضية الفلسطينية، التي ظلت منذ عقود في صدارة اهتمامات المملكة السياسية والدبلوماسية.
ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود رفض رفضًا قاطعًا أي تطبيع، مؤكدًا أن أي تطبيع لا يمكن أن يحدث قبل تحقيق الهدف الجوهري وهو إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.
هذا الموقف لم يكن مفاجئًا لمن تابع السياسة السعودية، فهو امتداد طبيعي للتاريخ الدبلوماسي للمملكة، الذي وضع القضية الفلسطينية في قلب أولوياته، وقد كرّست المملكة دعمها للشعب الفلسطيني سياسيًا، واقتصاديًا، وإنسانيًا على مدار عقود، سواء في ظل مبادرات السلام أو في مواجهة الضغوط الإقليمية والدولية.
إن رفض التطبيع قبل قيام الدولة الفلسطينية ليس مجرد موقف شكلي، بل هو تأكيد على التزام المملكة بالمبادئ التي قامت عليها سياساتها، ورفض لأي تقارب يُفرّط في حقوق الشعب الفلسطيني أو يُضعف موقفه السياسي.
وقد اختارت المملكة أن تكون واضحة وثابتة في موقفها، مؤكدة أن أي تطبيع لا يمكن أن يتم إلا بعد تحقيق العدالة للشعب الفلسطيني أولًا. وقد عبّر الأمير محمد بن سلمان في أكثر من مناسبة عن رؤيته المتزنة للسلام، مؤكدًا أن السلام الحقيقي لا يُبنى على تجاهل الحقوق أو تجاوزها، وأن أي تحرك خارج هذا الإطار سيكون مجرد استسلام سياسي يضرّ بالاستقرار الإقليمي ويُضعف الثقة في العملية الدبلوماسية.
إن أهمية هذا الموقف لا تكمن فقط في رفض الضغوط، بل في ما يعكسه من استقلال القرار الوطني للمملكة وقدرتها على صياغة سياسة خارجية واضحة تتماشى مع المصالح الاستراتيجية للشعب السعودي والعرب على حد سواء؛ فالمملكة استطاعت أن تجمع بين الانفتاح على الحوار والمرونة في التعامل مع مختلف المبادرات، وبين التمسك بالثوابت والمبادئ، وهو ما يجعل موقفها اليوم صوتًا عقلانيًا ومتوازنًا على الساحة الإقليمية والدولية.
ويكتسب هذا الموقف أيضًا بعدًا أخلاقيًا وسياسيًا، إذ يثبت أن القيادة السعودية لا تتعامل مع الضغوط الدولية بمنطق الانفعال أو الرضوخ، بل بوضوح الرؤية وحكمة الاستراتيجية.
وإن رفض التطبيع قبل قيام الدولة الفلسطينية يعكس مبدأً راسخًا: لا علاقات طبيعية قبل أن تتحقق الحقوق، ولا سلام منقوص على حساب المبادئ. وهذا ما يجعل الأمير محمد بن سلمان نموذجًا للقائد الذي يوازن بين المصلحة الوطنية والمبدأ الثابت في زمن تكثر فيه الحسابات السياسية الضيقة والمصالح المؤقتة.
لقد أثبتت السياسة السعودية أيضًا أن الثبات لا يعني الجمود، وأن المرونة لا تعني التنازل عن المبادئ؛ فهي منفتحة على كل مبادرات السلام التي تضمن حقوق الفلسطينيين، لكن دون التخلي عن موقفها التاريخي الراسخ، ويظل جوهر المبادرة العربية التي أطلقتها الرياض عام 2002 هو الإطار الأكثر اتزانًا لتحقيق الأمن والاستقرار الإقليمي، وهو ما يعطي المملكة مكانة قيادية في المنطقة، ويجعل صوتها مصدر ثقة للعرب والمسلمين.
ومع تصاعد محاولات بعض القوى لإعادة رسم خريطة المنطقة عبر التطبيع السريع، جاء موقف المملكة ليذكّر الجميع بأن السلام الحقيقي يبدأ بالإنصاف، وأن القيادة الحقيقية تتطلب القدرة على قول «لا» حين تكون الكلمة صعبة ومكلفة، لكنها صحيحة. فالثبات على المبادئ، في هذه المرحلة الحرجة، ليس رفاهية سياسية، بل ضرورة لاستعادة التوازن في المنطقة وحماية الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
احترام العالم لموقف المملكة لم يكن مجاملة، بل اعتراف بدورها كقوة عقلانية ومستقرة في المنطقة. ومنذ إطلاق رؤية السعودية 2030، أثبتت القيادة السعودية أن الانفتاح السياسي والاقتصادي يمكن أن يسير جنبًا إلى جنب مع حماية الثوابت والقيم العربية والإسلامية، دون التنازل عن الحقوق الأساسية للأمة، وإن موقف الأمير محمد بن سلمان يعيد إلى الأذهان جوهر السياسة السعودية منذ عهد الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود – رحمه الله – حين ربط بين نهضة الدولة وواجبها تجاه قضايا الأمة. واليوم يؤكد هذا النهج استمرار التزام المملكة بالثوابت، مهما كانت الظروف والتحديات، ويضعها في صدارة صانعي القرار الإقليمي المسؤولين.
كما يُظهر هذا الموقف أن السعودية لا تتعامل مع الضغوط السياسية بمنطق الانفعال أو الارتجال، بل بحكمة استراتيجية وبصيرة بعيدة المدى، بحيث تحافظ على مصالحها الوطنية والإقليمية، وتوازن بين الانفتاح الدبلوماسي والحفاظ على الثوابت التاريخية. في زمن تتغير فيه المواقف تحت ضغط المصالح، وقد وقفت المملكة العربية السعودية شامخة، لتقول للعالم إن القيم لا تُشترى، وإن السلام الحقيقي لا يولد من التنازلات بل من العدالة، وأن المبادئ الوطنية ليست لعبة تفاوض. وهكذا، يبقى صوت الرياض صوت التوازن، والعقلانية، والكرامة العربية التي لا تُساوَم، مما يجعلها نموذجًا يحتذى به في إدارة الملفات الحساسة بمسؤولية ووعي.
إن هذا الموقف أيضًا يعكس قدرة القيادة السعودية على الجمع بين الثبات والمرونة، حيث يمكن أن تكون منفتحة على الحوار والوساطات، لكنها لا تتخلى عن المبادئ التي تشكل حجر الزاوية في السياسة العربية والإقليمية، وفي الوقت الذي يحاول فيه البعض اختصار العملية السياسية إلى خطوات سطحية، تؤكد المملكة أن الحلول العميقة تستند إلى العدالة والإنصاف، وأن أي خطوة قبل تحقيق هذه المعايير ستكون ناقصة ومهددة للاستقرار.
في النهاية، يمثل رفض التطبيع قبل قيام الدولة الفلسطينية رسالة واضحة للعالم، مفادها أن المملكة العربية السعودية لا يمكن أن تكون طرفًا في أي اتفاق يُغفل الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. ويعكس موقف الأمير محمد بن سلمان عمق فهم القيادة السعودية لدورها التاريخي والمسؤولية الوطنية، ويؤكد أن السياسة الجيدة تقوم على المبادئ قبل المصالح، وأن الاستقرار الإقليمي يرتكز على العدالة، لا على المراوغات السياسية أو الضغوط الخارجية.
** **
- أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر المساعد بجامعة عدن