د. عبدالحق عزوزي
يتحدث الكثير من المتتبعين اليوم عن «جيل ألفا»، ويعني بذلك أن حياة مواليد الجيل الحالي هي مختلفة عن حياتنا نوعياً، لأنهم وُلدوا في زمن التطور الرقمي ووفرة التكنولوجيا، كما سيكون لهم مستقبلاً وظائف جديدة يؤدونها غير الوظائف التي نؤديها؛ فمثلاً فإن ثلث الوظائف الجديدة التي نجدها في الولايات المتحدة الأمريكية خلال العقدين الأخيرين لم تكن موجودة من قبل في مجالات مثل: إنشاء التطبيقات، تطوير تكنولوجيا المعلومات وإدارتها، تصنيع الأجهزة الرقمية.. وهذا الجيل يستدعي منا جميعاً مجموعة من الإستراتيجيات الآنية لحماية هذا الجيل من كل ما يمكن أن يعتريه من قلة مشاركته في الأنشطة الاجتماعية، ومن ضرورة إصلاح الجامعة ومسايرتها لمتطلبات هذا الجيل ومتطلبات سوق الشغل الحالية.
ولا أدل على ضرورة الإسراع من إحداث إصلاحات جذرية في منظومتنا التعليمية، وتعميم الدراسات المتمكنة لكي يلج الجيل الجديد سوق الشغل بنجاح، هو ما يجري في السياسات العمومية لبعض البلدان؛ فقد سبق وأن أقر مثلاً مجلس الشيوخ الأمريكي وفي لحظة تفاهم نادرة بين الديمقراطيين والجمهوريين، مشروع قانون يقضي بتخصيص استثمارات كبيرة في التكنولوجيا المتطورة. وتقضي الخطة بتخصيص أكثر من 170 مليار دولار وذلك لأهداف البحث والتطوير.. وترصد هاته الخطة 120 مليار دولار للوكالة الحكومية «مؤسسة العلوم الوطنية» لتشجيع البحث في مختلف المجالات التي تعتبر رئيسية مثل الذكاء الاصطناعي. كما تشمل 1,5 مليار دولار لتطوير شبكة الجيل الخامس (5جي) للاتصالات.
فالذي سيفوز في السباق على تقنيات المستقبل مثل الذكاء الاصطناعي «سيكون القائد في الاقتصادي العالمي» ونحن في بلداننا العربية يجب أن نطرح سريعاً مسألة التخصصات ووظائف المستقبل في ظل التحولات المتسارعة وغير المسبوقة التي أفرزتها الثورة الصناعية الرابعة وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، وهي التي تثير بدورها العديد من التساؤلات حول مستقبل منظومة التعليم وعلاقتها بوظائف المستقبل، وخاصة في ظل الدراسات التي تتوقع أن تحلّ الروبوتات والأجهزة الذكية مكان الإنسان في الكثير من مجالات الحياة والوظائف في السنوات المقبلة.
لقد شهد النصف الثاني من القرن العشرين ثورة الاتصال الخامسة، حيث يمكن تمييز تطور الاتصال من خلال خمس ثورات أساسية، تتمثَّل الثورة الأولى في تطور اللغة، والثورة الثانية في الكتابة، واقترنت الثورة الثالثة باختراع الطباعة في منتصف القرن الخامس عشر على يد العالم الألماني غوتنبرغ، وبدأت معالم ثورة الاتصال الرابعة في القرن التاسع عشر من خلال اكتشاف الكهرباء والموجات الكهرومغناطيسية والتلغراف والهاتف والتصوير الضوئي والسينمائي، ثم ظهور الراديو والتلفزيون في النصف الأول من القرن العشرين، أما ثورة الاتصال الخامسة فقد أتاحتها التكنولوجيا في النصف الثاني من القرن العشرين من خلال اندماج ظاهرة تفجر المعلومات وتطور وسائل الاتصال وتعدد أساليبه.
ولقد زلزل تقدم تكنولوجيا المعلومة والاتصال مناهج التعليم والتعلّم، حيث أصبح من الصعب على أستاذ الجامعات العصرية، غير الملم بالتقنيات الجديدة للتواصل مثل: iTune ، second life، Youtube أو الدروس المجانية عبر الخط مثل: MIT Open courseware أو edX أو khan Academy، أن يتماشى مع طلاب هم على دراية كبيرة بوسائل الإعلام الاجتماعية. علاوة على ذلك، فاللغة المهيمنة على مواقع الإنترنيت هي الانجليزية (57 في المائة)، متبوعة بشكل بعيد باللغات الأخرى: الألمانية (6,5 في المائة)، والروسية واليابانية والإسبانية والصينية (4 و5 في المائة) وأخيراً الفرنسية بنسبة (3,9 في المائة). وهذه أحد التحديات الرئيسية التي تواجهها الجامعات الحديثة النشأة وتتمثَّل في إقامة أرضية تكنولوجية تمكِّن الطلاب والأساتذة من الوصول إلى المعارف المتوفرة والمجانية. وهكذا، يمكن للأساتذة التحرّر من قيد إعادة خلق الدروس، وبالتالي استغلال وقتهم في تدريب الطلاب بدل إغراقهم بمعلومات متوفرة في الإنترنيت.
كما يجب أن يكون تسويق المعارف من أحد أهداف الجامعة، وهاته الثقافة للأسف الشديد هي غائبة في العديد من البلدان العربية، فالثلاثية جامعة - حكامة - صناعة، هي التي تبني الأمم الغربية وتقوي صناعاتها وتساهم في بناء الحاضر والمستقبل.
هاته إذن بعض الشروط المهمة والهادفة التي يجب أن تقوم عليها الجامعة، كقطب رئيسي وأول في خدمة وبناء وتطوير المجتمع، وهي كما يمكن أن يرى كل متتبع لبيب، الشروط التي تقوم عليها الجامعات الغربية والتي منها بلورت كل الصناعات الحديثة ومنها تخرج أصحاب جوائز نوبل والمبدعون وأصحاب الاختراعات المتتالية، وبدونها تبقى الجامعة مؤسسة عديمة النفع قائمة على التلقي والحفظ واجترار ما سطَّره الأولون والآخرون.