أ.د.صالح معيض الغامدي
لعل أهم ما يميز الرواية عن السيرة الذاتية أن العقد الذي يبرمه كاتب الرواية مع قرائه هو عقد تخييلي (مفاده أن أحداث الرواية لم تحدث كما هي في الواقع ناهيك عن أن تكون سرداً لأحداث حياة الكاتب)، أما العقد الذي يبرمه كاتب السيرة الذاتية فهو عقد توثيقي (مفاده أن ما يسرده الكاتب في نصه هو سيرة ذاتية (أو أطراف منها) حقيقية لكاتبها.
هذا في الأحوال العادية، ولكننا في بعض الأحيان قد لا نجد عقدًا تأليفياً واضحاً في بعض النصوص السردية، وتكون هذه النصوص مفتوحة أجناسياً بقصد أو بغير قصد. وهذا هو مجال تعدد القراءات وتباينها وربما تصارعها.
ولعل من الضرورة بمكان هنا التفريق بين العقد السيرذاتي التأليفي، والعقد السيرذاتي القرائي. فالعقد الأول هو عقد يبرمه الكاتب مع قرائه صراحة أو ضمنا مفاده أن ما يقدمه له هو سيرة ذاتية، (أو غيرها من أشكال الأدب الذاتي كاليوميات والمذكرات... إلى آخره.) ويهدف المؤلف بذلك إلى دفع القارئ أو توجيهه إلى قراءة نصه وفقاً لهذا الجنس الأدبي الذي ارتضاه لعمله.
أما العقد الثاني، فهو العقد التجنيسي الذي يختاره القارئ لقراءة نص سردي ما على أنه سيرة ذاتية لكاتبه، وفقاً للمسوغات النصية والخارجية التي يوردها أو لا قد يوردها. وبطبيعة الحال لا أحد يستطيع منع القارئ من ممارسة هذا النوع من القراءة السيرذاتية للأعمال السردية، فالقارئ حر في اختيار المنظور الأجناسي لقراءة الأعمال السردية أو بعضها على الأقل، مع الأخذ في الحسبان أن هذا النوع من القراءة قد لا يكون مقنعاً لنا ولا مبرَرَاً في كثير من الحالات، بل لا يعدو كونه إسقاطاً لسيرة الكاتب (أو لبعض جوانبها على الأقل) التي يعرفها أو يفترض أنه يعرفها، على عمله.
وفي هذا النوع الثاني من القراءة التي تستند على العقد القرائي الذي يصطنعه القارئ نفسه، قد لا يكون القارئ مطالباً بتقديم مبررات ومسوغات تسند قراءته السيرذاتية طالما أنها قراءة تذوقيه الهدف منها مجرد الاستماع الشخصي. أما إذا كانت قراءته تهدف إلى كتابة تحليل للعمل السردي، أي أن القارئ هو ناقد مهتم بنقد الأعمال السردية والكتابة عنها وتقديمها للقراء، فإنه يحتاج في الواقع إلى أدلة ومسوغات قوية نصيه لتبرير هذه القراءة لإقناع القراء بها.
ونظراً إلى أن أكثر النصوص السردية عرضة لتعدد القراءات السيرذاتية المختلفة هي النصوص الروائية، نود أن نركز فيما يلي على القراءات السيرذاتية التي رصدناها للرواية.
يمكن تقسيم قراءة الرواية إلى عدة أنواع فيما يتعلق بصلتها بالسيرة الذاتية لكاتبها من عدمها:
ا- قراءة الرواية بوصفها رواية، ولا علاقة لشخصيات الرواية بالكاتب وحياته، وهذا النوع معروف وطبيعي ولن نطيل في الحديث عنها.
2- قراءة الرواية بوصفها ذات طابع سيرذاتي، وهذه القراءة تكون مبنية على مجرد تصور أو انطباع أو زعم، مفاده أن الكاتب لا تستطيع مثلاً كتابة سيرته مباشرة ولذلك فهو يتقنع بالرواية، أو افتراض أن العمل الروائي الأول للكاتب ليس هو إلا سيرة ذاتية له، أو أن الرواية مروية بضمير المتكلم، مما يسوغ ادعاء سيرذاتيتها.
3- قراءة الرواية وفق التجنيس السيرذاتي الذي يضعه المؤلف على غلافها أو داخلها: ويقول، على سبيل المثال إن عمله (سيرة ذاتية رواية) أو (رواية سيرة ذاتية) أو «سيرواية» مثلاً، وهذه قراءة سيرذاتية بعقد تألفي وليس بعقد قرائي.
4- قراءة الرواية قراءة سيرذاتية، وذلك بالاتكاء على بعض الأدلة الداخلية أو الخارجية، مثل تشابه الأمكنة التي عاش فيها المؤلف حقيقة بتلك التي عاش فيها البطل أو البطلة داخل الرواية.
5- قراءة الرواية قراءة سيرذاتية مبنية على مدى معرفة القارئ الشخصية بحياة الكاتب، وفي هذه الحالة تتشكَّل هذه القراءة من خلال الإسقاطات التي يقوم بها القارئ العارف بالمؤلف، والعقد السيرذاتي هنا هو مجرد عقد قرائي متخيل أو حتى رغبوي.
6- قراءة سيرذاتية تستند إلى أدلة أو قرائن نصية تسوغ هذه القراءة وترجحها من منظور هذا القارئ ومن مراوغات كاتبها السردية في آن معاً، مثل تقاطع بعض أبعاد الرواية مع حياة مؤلفها، أو مع الأمكنة التي عاش فيها البطل، أو مع الشخوص الذين يرسمهم والأحداث التي يستدعيها، وكذلك مثل التشابه بين اسم البطل والشخصية الرئيسة في الرواية، ورود بعض الحواشي في الرواية التي تربط شخصية الكاتب ببطل روايته... إلى آخره. والحقيقة أن هذه القرائن قد تتعدد وتتنوع في هذه القراءة لتؤكد سيرذاتية الرواية. وفي هذه الحالة يمكن أن يعد هذا النص الروائي «تخييلاً ذاتياً» وهو النص الروائي الذي يقول فيه الكاتب لقارئه صراحةً أو ضمناً: «هذا أنا ولست بأنا، في آن معاً»، أما القارئ لهذا النص فلا يقول في هذه الحالة إلا: «بطل هذا العمل هو الكاتب نفسه، ولا أحد غيره»!