خالد محمد الدوس
يظل علم الاجتماع علماً حياً ينبض بالحياة، يشتبك باستمرار مع الواقع الإنساني المتغير ويتفاعل بإيجابية مع التحولات الاجتماعية عبر الأزمنة والأماكن المختلفة. منذ تأسيسه على يد العلامة العربي عبدالرحمن بن خلدون-رحمه الله تعالى، ثم العالم الفرنسي أوغست كونت، والعالم إميل دوركهايم ، فقد وضع-علماء الاجتماع - هذا العلم نصب أعينهم.. هدفاً أساسياً هو فهم الظواهر الاجتماعية وتحليلها في سياقاتها التاريخية والجغرافية المتباينة، ساعياً لتقديم تحسينات متنامية للواقع الإنساني ترتكز على دعائم علمية لفهم هذا الواقع وتعظيم قدرات الإنسان على التحكم به.
خاصة وأن علم الاجتماع وميادينه المتنوعة له قدرة ديناميكية فريدة على مواكبة التحديات والتفاعل مع المتغيرات الزمانية والمكانية للظواهر الاجتماعية المتنوعة مما جعله علم (ولّاد)..! له أكثر من أربعين فرعاً ومازال يتمتع بروح الشباب في الهرولة السوسيولوجية وملاحقة الظواهر المستجدة والمتحولة نتيجة التغيرات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والتكنولوجية السريعة في واقعنا المعاصر.
وبالطبع تشكل الظواهر الاجتماعية أهم موضوعات علم الاجتماع الرئيسية، وتعرف بأنها «كل ضرب من السلوك ثابتا كان أم غير ثابت، يمكن أن يباشر نوعاً من القهر الخارجي على الأفراد أو هي كل سلوك يعم المجتمع بأسره، وكان ذا وجود خاص مستقل عن الصور التي يتشكل بها في الحالات الفردية» كما عرفها رائد علم الاجتماع الحديث (دوركهايم).
وتتميز الظواهر الاجتماعية بعدة خصائص تجعلها قابلة للدراسة في أبعادها الزمانية والمكانية وذلك في ضوء هذا العلم الاخطبوطي (علم الاجتماع) ومنها «العمومية والانتشار» ،أي أن الظاهرة الاجتماعية يشارك فيها معظم أفراد المجتمع .وكذلك تتصف «بالتلقائية».. بمعنى إنها ليست من صنع فرد أو بضعة أفراد ولكنها من صنع المجتمع ، وتظهر بأمر من العقل الجمعي .! كما تتميز»بالنسبية والتغير»، ومعروف أن الظاهرة الاجتماعية نسبية ومتغيرة من حيث الزمان والمكان؛ فالزواج مثلاً يختلف من حيث تطور أشكاله على مر العصور، كما أنه يختلف من مجتمع لآخر.
هذه البنية المركبة تجعل من الظاهرة الاجتماعية كياناً ديناميكياً يتأثر بالتحولات الزمانية والمكانية، ويستجيب للتغيرات في البيئة المادية والرمزية المحيطة.
وفي هذا السياق لابد الإشارة أن علم الاجتماع كعلم إنساني يواجه تحديـات منهجيـة حاسمة في تعامله مع المتغيرات الزمانية والمكانية، أبرزها تحدي الموضوعية في مواجهة التأثيرات الأيديولوجية.
وإذا كانت الأيديولوجيا حتمية من حتميات علم الاجتماع، فإن هذا لا يعني تصريحا للأيديولوجيا أن تطمس الحقيقة وأن تجعل للواقع صورا متعددة، بل أن للواقع صورة واحدة وعلى علماء الاجتماع أن يجعلوا من ذلك الواقع مجالا لدراساتهم وإن اختلفت انتماءاتهم الأيديولوجية.
ويشير علم الاجتماع أن الظواهر الاجتماعية تختلف في طبيعتها وتعبيراتها باختلاف الأماكن والثقافات، فما يعتبر ظاهرة في مجتمع قد لا يكون كذلك في مجتمع آخر. فمثلاً، نجد أن الظواهر الاجتماعية تختلف حسب كل مجتمع، ومن أمثلتها: العزوف عن الزواج، تزايد نسبة الطلاق، ارتفاع نسبة الجريمة، تعدد الزوجات، عمل المرأة، التفكك الأسري، تعاطي المخدرات، العنف ضد الأطفال والمرأة وغيرها من الظواهر الاجتماعية.
في ظل العولمة والتطور التكنولوجي المتسارع، تواجه الدراسات الاجتماعية تحديات جديدة في فهم الظواهر الاجتماعية وتعقيداتها، فكما تشير الأبحاث، «مع بداية القرن الحادي والعشرين بدأت بذور التحول في شكل النظام العالمي تنمو بصورة واضحة، كما توالت على دول العالم عدد من الأزمات الكبرى التي وصل أثرها إلى معظم المجتمعات -بدرجات متفاوتة- حتى أصبحنا نعيش ما يُعرف بعصر «الأزمة الدائمة» ..!!
مع ذلك.. شهد علم الاجتماع تطوراً مستمراً في نماذجه البحثية، حيث استخدم علماء الاجتماع نماذج متعددة عبر مراحل مختلفة، بداية من المرحلة التقليدية، تليها مرحلة الأزمة، وأخيراً مرحلة التقليدية الجديدة.
ويُعد مجال الحوسبة الاجتماعية من المجالات التفاعلية الحديثة التي تجمع بين تقنيات الحوسبة المتقدمة ومناهج البحث في العلوم الاجتماعية، بهدف تقديم رؤى أعمق لفهم الظواهر الاجتماعية المعقدة.
يقدم الذكاء الاصطناعي التوليدي إمكانيات غير مسبوقة في تحليل الظواهر الاجتماعية المعقدة، ويتيح استنتاج مؤشرات يصعب الوصول إليها بالوسائل التقليدية. فهناك بيانات (كامنة) لا يُفصح عنها الأفراد في المسوحات واستطلاعات الرأي، إما بسبب الحرج الاجتماعي أو الخصوصية.!!
كما يتيح هذا النوع من التحليل بناء فرضيات نظرية جديدة، إذ يسمح باكتشاف متغيرات وأبعاد تفسيرية غير متوقعة قد تؤدي إلى بلورة رؤى نظرية جديدة.
وأمام شدة رياح التغيرات الاجتماعية والتحولات الثقافية.. يواجه علم الاجتماع في مسيرته التاريخية تحديـات منهجيـة ونظرية كبيرة في سعيه لمواكبة المتغيرات الزمانية والمكانية، لكنه يظل علماً حيوياً قادراً على تجديد أدواته ومناهجه باستمرار. فمن خلال تبني مناهج جديدة كالحوسبة الاجتماعية والذكاء الاصطناعي، والوعي بالتحديات الأيديولوجية والمنهجية، يمكن لعلم الاجتماع أن يظل علماً قادراً على فهم الظواهر الاجتماعية وتحليلها في سياقاتها الزمانية والمكانية المتغيرة.
إن مستقبل علم الاجتماع مرهون بقدرته على توظيف قضاياه المستقبلية في استخدام «أرضية وسط» بين الواقع والمثالية، تكون بمثابة سند علمي نظري وعملي يمكن الاستناد إليه للمساهمة في تحقيق التنمية الفعلية للمجتمعات المعاصرة. وهكذا يظل علم الاجتماع علماً ديناميكياً قادراً على التفاعل بإيجابية مع كل التحولات الزمانية والمكانية، ملبياً حاجة البشرية المستمرة لفهم ذاتها ومجتمعاتها بشكل أعمق وأشمل. وباختصار مستقبل علم الاجتماع مرهون بقدرته على الخروج من«البرج العاجي» الاكاديمي والانخراط في قضايا وظواهر مجتمعية معاصرة ملحة.. وإذا استطاع أن يكون جريئا ونقديا وعمليا فلن يكون بالطبع مجرد مراقب للتحولات الرهيبة بل سيكون أداة فعالة في تشكيلها نحو الأفضل.!