د. فودة محمد علي
من أهم نواحي العظمة الإنسانية أن تملأ الدنيا وتشغل الناس، أن تكون حديث المجالس ويغالي فئة في حبك، وفئة تغالي في نقدك وذمك، وأن تحدث أعمالك حالة من الثورة الفكرية بين مؤيد ومعارض، وأن يستهلك الناس وقتهم وجهدهم في تقييم عملك، بين راض وساخط، لأن نقيض ذلك هو الشخص الخامل الذي إذا حضر لم يعرف وإذا غاب لم يفتقد، حضوره كما غيابه، والعمل غير الناجح الذي يمر مرور الكرام لا يلتفت إليه أحد ولا يعبأ به إنسان، أما العمل الناجح هو ذاك الذي يثير حالة من التساؤلات والاستفهامات، ويغالي الناس في الثناء عليه، أو ذمه وهجائه، ويأخذ حيزا كبيرًا من وقتهم ونقاشهم.
أبيت ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم
ومن أهم الشخصيات التي برزت على مسرح الحياة العربية، بكل مناحيها الفنية والثقافية والرياضية وأحدثت أعماله حالة فكرية وجدلية كان الشارع العربي في أمس الحاجة إليها بعد حالة الرقاد الفكري التي عمت الأوساط الثقافية والفنية، ولجأ الناس للمنتج الأجنبي لإشباع احتياجاتهم، تمثلت في ردود الأفعال حيال الأنشطة التي قام بها، المستشار تركي آل الشيخ، الرجل الذي تخرج في كلية الملك فهد الأمنية في العلوم الأمنية، وامتد نشاطه العلمي للعديد من الدروات العلمية المتخصصة، حيث بدأ مهامه العملية في القطاع الحكومي بوزارة الداخلية، متنقلاً في عدد من الوظائف الحكومية المختلفة التي أكد نجاحه وتفوقه فيها حتى آلت إليه إدارة الهيئة العامة للترفيه، التي أحدث بها نقلات نوعية كبيرة، من خلال مواسم الرياض المتعددة فضلاً عن رعايته للفعاليات الرياضية والثقافية والفنية المختلفة، كما تمتع بالعديد من المهارات والمواهب ولاسيما في مجال الإدارة وكتابة الشعر.
الحقيقة أن إنشاء الهيئة العامة للترفيه كان عملاً عبقريًّا حكيمًا ذا نظرة عميقة لحقيقة هذا الاحتياج الإنساني، وذلك بقرار شجاع من أمير عبقري سديد الرأي بعيد النظر، صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد -حفظه الله- الذي رأى بثاقب نظره، ونافذ حكمته، أن من أهم الاحتياجات الإنسانية حاجة الإنسان للترفيه، فالقلوب تحتاجه ساعة بعد ساعة فإن كلت عميت، وهذه الحاجة ينشدها الإنسان ويبحث عنها، فإن لم يجدها في موطنه سافر من أجلها، ولا شك أن سفر مواطني الدولة للخارج هو عمل يشتمل على مخاطرة كبيرة من الدولة برعاياها؛ حيث يقع بعضهم فريسة خارج الدولة لقيم مناهضة لقيم الدولة، فضلاً عن ضياع عائد اقتصادي كبير، كان من الأفضل أن يصب في خزانة الدولة مما يعود بالنفع على المواطن من خلال الآلاف من فرص العمل، فضلاً عن استخدام عوائد الترفيه في أعمال تنموية وإنشائية كثيرة.
ومنذ تولي المستشار تركي مسؤولية الهيئة فقد حرص على استقبال نجوم العالم والشخصيات الفنية والرياضية والثقافية المؤثرة، فنجحت هذه المواسم نجاحًا كبيرًا، ونجحت في أن يصبح اسم عاصمة المملكة الرياض اسمًا براقًا يحمل في طياته لدى كل من لديه موهبة، أو يحلم بالشهرة، ويتمنى نجاحًا أن يكون أحد ضيوف موسم الرياض، فتحسنت صورة الرياض كعاصمة للثقافة العالمية وبات الاسم يحمل الأمن والسلام لدى كل من يريد أن يمضي وقتًا في رحاب الفن الراقي والفعاليات الهادفة، وأصبح يأتينا من كنا نذهب إليهم.
وكما قدمت فقد أحدثت فعاليات مواسم الرياض، وما تبعها من فعاليات رياضية، واستقطاب نجوم العالم في كرة القدم والفنون بأسرها، لغطًا واسعًا في الشارع العربي من المحيط إلى الخليج، بل لن أكون مبالغًا إن قلت إنه قد امتد تأثيرها إلى أوروبا من خلال الفعاليات التي امتدت إلى هناك، وأصبح اسم المستشار بمثابة أيقونة كثر الحديث عنها، وكثرت التغريدات والمنشورات التي تمدح أو تذم، أو تدافع أو تهاجم، لكن اللافت للنظر أن المستشار عمل بالمثل العربي تجاه شانئيه أو مهاجميه، حيث أكد بسلوكه أن القافلة تسير، أو أنها صارت تطير، فهيهات هيهات أن يوقع سيرها تلكم السلاحف والأفاعي، أو نباح نابح، أو كلمات كاره، فقد طار حديثها، وذاع صيتها، وعم أريجها الحواضر والبوادي، فلم يعر الرجل اهتمامًا أو يقدم ردودًا بل انطلق انطلاقة الواثق، واستمر بنجاح المتيقن، حتى أخذت المملكة العربية السعودية اسمها اللائق بها كعاصمة للفن والإبداع.
وإن كان روجرز في نظريته عن الأفكار المستحدثة يؤكد أن الناس ينقسمون دومًا تجاه كل فكرة جديدة إلى خمس فئات: المبادرين، والمؤيدين، والمترددين، والمتشككين، والمتحاملين، فهذا ما حدث مع ما يقدمه المستشار من رؤى وأفكار جديدة، رآها البعض بداية انطلاقة كبرى لتتبوأ المملكة مكانتها كدولة عظمى، ورآها البعض ممن وقفت عقولهم أنها تهديد للأصالة الفكرية.
والحق أن الفكرة تحمل في داخلها العمق التاريخي المتأصل، والريادة الدينية للمملكة، كما تحمل في جوهرها الكثير من التطور وكسر حالة الجمود التي اعترت المشهد العربي، ولا شك أن فرض العزلة على المجتمع والتقوقع داخل حدوده خوفًا من التغيرات العالمية هو بمثابة الحكم على المجتمع بالتأخر والتراجع، في وقت لم يعد فرض حالة العزلة ممكنة، فقد أتت الأنفوميديا بتقنيات نجحت في اجتياز الحدود، بل واجتياز أبواب البيوت، ولم يعد في الإمكان حجب كل هذا التطور حيث إن وصوله إلى الناس صار أمرًا حتميًا، فبدلاً من أن نضع رؤوسنا في الرمال مثل النعام كان حتمًا أن يتم مواجهة هذا التطور والتعامل معه من خلال فتح النوافذ، وإزالة الأسوار التي لم تعد تغني فتيلاً.
وفيما مضى منذ قرن من الزمان قام العثمانيون والمماليك بفرض حالة من العزلة على العالم العربي وقطعوا كل أواصر الصلة بينه وبين ربوع العالم، الأمر الذي أسفر عن التقدم الرهيب لدى العالم الغربي في كافة ميادين الحياة، ووقفت الدنيا بالعالم العربي عند المبارزة بالسيف، واجترار أمجاد ماضيهم البعيد، ولم يكن في الإمكان أن يستمر الحال على ما هو عليه حيث فوجئ العالم العربي بغاز يغزو بلادهم ويريد السيطرة عليهم، وهو نابليون بونابرت الذي فوجئ به العالم العربي يقف بأسطوله الحديث على سواحلهم حاملاً معه ما لم يكن في خلدهم، ومن يريد أن يقف على هول المفاجأة فليقرأ تاريخ الجبرتي وهو يصف ما حدث وما وقع للمصريين مثالاً مما لم يكونوا يحتسبون.
فقد حضر نابليون بونابرت حاملاً معه المدافع، وحاملاً معه الطابعات مستقدمًا معه علماء الآثار للبحث والتنقيب، فوجئ العالم العربي بمسمى إعلامي جديد اسمه الصحافة، وآلات الطباعة التي تستنسخ الكتب في وقت وجيز، وصحيح فشل نابليون فيما أراد ولم تفلح مدافعه في كسر إرادة العرب، حيث لم ينجح سوى في احتلال مصر وأجزاء من الشام، وقوبل بمقاومة شديدة، اضطرته للعودة والفرار، ولكنه ترك لنا درسًا مفيدًا وهو أن العزلة والتحصن داخل الذات، وبناء الأسوار لن تحمي الدول، ولكن يحميها العلم والتقدم والمدنية الحديثة، والقدرة على تشرب الثقافة الحديثة، والانتقاء منها ما يلائم بيئتنا وأحوالنا، وألا نقف منها موقف المستهلك والمشاهد، بل يجب أن يتعدى دورنا إلى الإسهام الفعال في إنتاج المعرفة، وتقديم الترفيه الذي يعد هدفًا للإنسان بشكل عام في ظل الانغماس في دوامات الأعمال.
وقد راهنت القيادة على المواطن السعودي حيث شبهته بطويق، في مدى قدرته على مواكبة الزمان، والصمود أمام كل رياح الزمن، بتقلباته وتغيراته، وأنه أقوى من أن يقتلع جذوره عمل هنا، أو عرض هناك، وذكرنا بمقولة غاندي «سأفتح نوافذي لكل رياح التغيير شريطة ألا تقتلعني من جذوري».. واستوعب المجتمع السعودي والمواطن، بل واستساغ كافة مناحي التطوير التي تبنتها بلاده دون أن ينخلع من أصوله وتراثه، وشارك بشكل أذهل العالم في تقديم المعرفة الإنسانية، وصناعة الترفيه، وازداد تماسكه وانتماؤه لبلاده، وولاؤه لحكامه وقيادته، وأكد أنه قادر بالفعل على صناعة الحاضر واستشراف المستقبل، مستلهمًا من تاريخه الممتد كل ما يعينه على مواصلة الطريق .. شعاره: «يا بلادي واصلي... يا بلادي واصلي».
** **
- أستاذ الاتصال والإعلام بجامعة الملك فيصل