مرفت بخاري
في كل حياة يمر بها الإنسان، تكمن مسؤولية عظيمة: أن يكون مدركًا لوجوده، أن يعيش ليس لمجرد التنفس، بل ليترك أثرًا في الأرض والناس، ويبني ذاته داخليًا وخارجيًا. الإنسان الحقيقي هو من يُثمر وجوده بالخير، ويعمر الأرض التي أنجبته، ويخدم وطنه بنفسه وروحه وأنفاسه. هذه المسؤولية ليست رفاهية أو خيارًا، بل هي جوهر الحياة ومعنى العطاء الحقيقي. فمن يعيش هكذا، يكون قدوة لمن حوله، وينسج من تجربته درسًا للأجيال القادمة.
ومن هنا، نستلهم في زاويتنا لهذا الأسبوع حياة الأمير عبدالله الفيصل، الذي جمع بين الفكر والشعر والعمل، وجعل من وجوده رسالة للوفاء والعطاء والإبداع.
في زمن كانت الكلمة تُكتب بمداد القلب، خرج صوت مختلف من الحجاز، صوت هادئ لا يُجيد الصخب، لكنه يُتقن الصدق. ذلك هو عبدالله الفيصل، الشاعر، الإنسان، والأمير الذي اختار أن تكون إنسانيته أعظم من ألقابه، ليُثبت لنا بكل شفافية أن التركيز على جانب واحد في الحياة قصور، فكان الشاعر السياسي، الأب الفاضل، الداعم الرياضي الأول في نادي الأهلي، ورث حبه الجماهير إلى يومنا هذا.
وُلد في مكة المكرمة عام 1921، في بيت من بيوت المجد، لكنه لم يتكئ على النسب، بل صنع مكانته بعطائه. جمع بين السياسة والأدب والرياضة، وبين الحزم والرهافة، فكان نموذجًا نادرًا للقائد الذي يوازن بين العقل والعاطفة.
كان في حياته صاحب قلب شفيف، يكتب الشعر لا ليمدح، بل ليعبر. في قصائده حزن جميل وصدق لا يُشبه إلا ذاته. كتب:
أَكَادُ أَشُكُّ فِي نَفْسِي لِأَنِّي
أَكَادُ أَشُكُّ فِيكَ وَأَنْتَ مِنِّي
يَقُولُ النَّاسُ إِنَّكَ خِنْتَ عَهْدِي
وَلَمْ تَحْفَظْ هَوَايَ وَلَمْ تَصُنِّي
وَأَنْتَ مُنَايَ أَجْمَعُهَا مَشَتْ بِي
إلَيْكَ خُطَى الشَّبَابِ المُطْمَئِنِّ
وَقَدْ كَادَ الشَّبَابُ لِغَيْرِ عَوْدٍ
يُوَلِّي عَنْ فَتَىً فِي غَيْرِ أَمْنِ
وَهَا أَنَا فَاتَنِي القَدَرُ المُوَالِي
بِأَحْلاَمِ الشَّبَابِ وَلَمْ يَفُتْنِي
كَأَنَّ صِبَايَ قَدْ رُدَّتْ رُؤاهُ
عَلَى جَفْنِي المُسَهَّدِ أَوْ كَأَنِّي
يُكَذِّبُ فِيكَ كُلَّ النَّاسِ قَلْبِي
وَتَسْمَعُ فِيكَ كُلَّ النَّاسِ أُذْنِي
كلمات قالها عاشق، لكنها بقيت درسًا في عمق المشاعر وجرأة البوح. لم يكن الشعر عنده ترفًا، بل رسالة ومسؤولية. كان يؤمن أن الفن وسيلة لتهذيب الروح وبناء الإنسان، لذلك دعم المبدعين، واحتفى بالمواهب، وفتح الأبواب أمام جيل كامل من الشعراء والمغنين الذين حملوا كلماته إلى الناس، فكانت قصائده تسكن الأوتار كما تسكن القلوب.
وفي الجانب العملي، كان رجل دولة من طراز فريد. تولى وزارة الداخلية والخارجية، وترك بصمته في تأسيس العمل المؤسسي والنهج الإداري الحديث.
ومع ذلك، لم تسرقه المناصب من إنسانيته، فظل قريبًا من الناس، بسيطًا في تعامله، صادقًا في وعوده.
أما في الرياضة، فكان يرى فيها مدرسة للأخلاق قبل أن تكون ميدانًا للفوز، فأسس النادي الأهلي السعودي على مبادئ الحب والانتماء، لا على صخب التنافس.
رحل عبدالله الفيصل عام 2007، لكنه ترك إرثًا خالدًا من الشعر والفكر والمواقف النبيلة. ترك لنا درسًا بأن القيادة ليست سلطة، بل قدوة، وأن الكلمة حين تخرج من قلب نقي تبقى خالدة.
اليوم، ونحن نعيش في زمن تتسارع فيه الكلمات وتضيع فيه المعاني، نحتاج أن نتأمل مسيرته. أن يتعلم شباب هذا الجيل منه الصدق في القول، والإخلاص في العمل، والرقي في التعامل.
أن يفهموا أن العظمة لا تُقاس بالصوت العالي، بل بالأثر الطيب الذي يخلّفه الإنسان حين يرحل.
كان عبدالله الفيصل أميرًا، لكنه اختار أن يكون أمير الكلمة، وأبًا للذوق، ورمزًا للإنسانية الراقية. رحل، لكن كل بيت من شعره ما زال يقول لنا:
ما زال في الناس من يُحبّ بصمت، ويعمل بإخلاص، ويترك أثرًا لا يُنسى.
في قصيدته الخالدة، «أطيلي الوقوف»، يُبحر بالخلاص بمشاعر نادرة عن الامتنان والوفاء المستمر. الموت لا ينهي القصص، إنما يرسم عهدًا جديدًا للولاء والوفاء. قال:
أطيلي الوقوف
هو الداء يعبث في أضلعي
إذا ما نعيت فلا تفزعي
ولا تبعثي صرخة في الفضاء
ولا ترسلي مدمع الموجع
فلا بالمدامع برء الجراح
فخلي النواح ولا تجزعي
ولكن عليك بحفظ الوداد
وصوني عهود الفتى الألمعي
وعيشي مدى العمر بالذكريات
وطوفي بمغنى الهوى واخشعي
وزوري ثراي إذا ما السكون
أطل وعند الثرى فاركعي
لئن ضم جسمي ذاك الثرى
لقد ضم عهدي وحبي معي
وحطي على القبر بعض الزهور
ففي الزهر ذكرى لقا ممتع
لم يكن هذا نداء وداع، بل وصية محبة خالدة. لم يتحدث عن الموت، بل عن الوفاء لما يبقى من الإنسان بعد غيابه. حين قال:
ولا تبعثي صرخة في الفضاء
ولا ترسلي مدمع الموجع
علّمنا أن الحزن الصادق لا يحتاج صخبًا، بل احترامًا للذكريات. وفي قوله:
وصوني عهود الفتى الألمعي
وعيشي مدى العمر بالذكريات
نجده يعلّم أن العهود لا تُصان بالكلمات، بل بالأفعال، وأن الحب الصادق يعيش في السلوك لا في البكاء.
من بين حروفه يتجلى نداء للجيل الجديد: أن يجعلوا من حياتهم أثرًا يستحق أن يُزار، ومن ذكراهم نورًا لا يخبو.
أن يؤمنوا بأن الجمال في الحياة ليس في الألقاب ولا المناصب، بل في الصدق والإخلاص والوفاء.
كل من يقف عند إرث عبدالله الفيصل لا يرى شاعرًا يرثى، بل مدرسة في الإنسانية والذوق الرفيع، ورمزًا للعطاء الهادئ الذي لا ينتهي. وإن كانت النجوم تلمع ليلاً، فنجمنا اليوم يلمع دهورًا وأعوامًا، معلنًا أن الوطن فاز بروح خالدة، عمرت وأنارت، وترك أثرًا جميلًا. رحم الله شاعرنا القدير، وجعل الفردوس مقره وسكناه.