د. عبدالحليم موسى
في عوالم المادة، حيث تتقاطع الذرّة مع الوعي، يقف البروفيسور السعودي عمر ياغي نموذجاً للعقل البشري الذي تجاوز حدود الملاحظة التجريبية، ليغوص في الأعماق الخفية للعلاقات بين الإنسان والمادة والكون، فوزه بجائزة نوبل في الكيمياء للعام 2025 لم يكن مجرد احتفاء باكتشافات مخبرية، بل تجسيدٌ لإبداع فكري يمزج العلم بالمسؤولية الأخلاقية تجاه الإنسان والبيئة، كما قال أرسطو، العلم هو معرفة الأسباب والغايات، وليس مجرد جمع الحقائق؛ وهنا يظهر واضحاً أن الاكتشاف العلمي لا يكتفي بالتقنيات، بل يتطلب حكمة تتجاوز حدود المادة.
من خلال بحثه في الكيمياء الشبكية (Reticular Chemistry)، ابتكر ياغي الهياكل المعدنية العضوية، وهي مواد قادرة على امتصاص الغازات وتحويل الهواء إلى ماء، وهذه المواد تمثل ثورة في فهم التفاعل بين المادة والبيئة والإنسان، فهي لا تقتصر على التقدم التكنولوجي، بل تجعل من الذرّة لغة للتواصل مع الكون، حيث لكل تركيب وظيفة ومعنى، وليس مجرد جزيء جامد، كما قال آينشتاين انظر بعمق، فالعقل وحده لا يكفي لفهم الكون، وهذه المقولة تعكس فلسفة ياغي في النظر إلى المادة بعين التجربة والوعي معاً.
يمثل عمل ياغي تكاملا بين الابتكار العلمي والالتزام الأخلاقي، فإسهاماته الحديثة هي امتداد مباشر لإرث العلماء المسلمين الكبار مثل الخوارزمي، الذي أسس علم الجبر ووضع قواعد لفهم النظام الكوني؛ ابن سينا، الذي جمع بين الطب والفلسفة والعلوم الطبيعية ليؤكد أنّ المعرفة وسيلة لفهم الإنسان والكون معاً؛ والرازي، الذي دمج بين الكيمياء والطب والأخلاق، وأكد أنّ العلم يجب أن يخدم الإنسان ويحسن حياته.
تخيّلوا معي الآن مشهد إعلان نوبل بأثر رجعي، حيث استدارت عجلة الزمان إلى الوراء فجأة، ليقف هؤلاء العباقرة القدامى على منصة التكريم؛ فبدأت شاشات التلفاز والإعلام الرقمي حول العالم تعرض قصصهم العلمية وتأثيراتهم الإنسانية، وهم يتلقون أخبار فوزهم بجائزة نوبل، والخوارزمي يبتسم لرؤية أثر معادلاته في الكيمياء الحديثة، ابن سينا يرفع يده تحية للعلم الذي تجاوز الطب والفلسفة، أما الرازي فهو يتأمل كيف أصبح العلم أداة لخدمة الإنسان كما حلم هو بذلك.
تخيل لو أنّ جائزة نوبل بدأت منذ زمن هؤلاء العلماء القدامى، ربما كان اسمها مرتبطاً مباشرة بأحدهم، جائزة الخوارزمي للابتكار العلمي، أو جائزة ابن سينا للتفكير المتكامل، أو جائزة الرازي للعلوم والخدمة الإنسانية. هنا تتحول الجائزة من مجرد تكريم إنجازات فردية حديثة إلى احتفال بالإرث المعرفي الكوني، وتصبح كل جائزة لاحقة امتداداً للإبداع الذي بدأ منذ قرون.
وفي الوقت نفسه، يتفاعل جيل اليوم عبر الإعلام الرقمي، يعلق ويشارك ويعيد تفسير إرثهم في سياق الابتكارات الحديثة، ويصبح الإعلام الرقمي هنا جسر تواصل بين الماضي والحاضر، ينقل المعرفة إلى كل زاوية من العالم، ويجعل الإرث العلمي حياً نابضاً في الواقع الرقمي، حيث يمكن للمتابعين أن يشهدوا كل اكتشاف، وكل تجربة، وكأنّهم حاضرون في قلب الحدث.
حصول ياغي على جائزة الملك فيصل والجنسية السعودية تعززان من قيمة التكريم، حيث حصل ياغي على هذه الجائزة، التي تكرم الإبداع العلمي والإنساني على المستوى العالمي، كما منحته المملكة العربية السعودية الجنسية السعودية اعترافا بمساهماته في تعزيز البحث العلمي وربط الابتكار بالمجتمع والإنسانية؛ هذا التكريم السعودي، إلى جانب جائزة نوبل، يؤكد أن الابتكار والتميز العلمي ليس له حدود جغرافية أو زمانية، وأن العلماء الحقيقيين، مهما تباعدت أزمنة حياتهم، يظل تأثيرهم حاضراً في كل زمان ومكان.
يذكّرنا ياغي بقوله إنّ العلم بدون أخلاق يشبه قوة بلا هدف، والمعرفة بلا فائدة تظل مجرد رموز على الورق، وهذا التأكيد يربط بين التجربة العلمية والضمير الأخلاقي، ويبرز أن الابتكار العلمي يجب أن يكون دائماً في خدمة الإنسان والبيئة، وليس مجرد وسيلة لتحقيق المكاسب أو الشهرة.
وأخيرا يرى ياغي أنّ الكيمياء تمثل جسراً بين المادة والوعي الإنساني، وبين الماضي والحاضر، وهنا تتضح فلسفته في ربط إرث العلماء القدامى بالاكتشافات الحديثة، وإظهار العلم كرحلة مستمرة عبر الزمن، حيث يصبح كل اكتشاف حلقة في سلسلة لا تنقطع من المعرفة الإنسانية التي تتجاوز حدود المكان والزمان.
في خاتمة المطاف يوضح عمر ياغي أنّ الكيمياء ليست مجرد دراسة للمادة، بل أداة لاستشراف مستقبل الحياة وتوسيع نطاق المعرفة الإنسانية، وكل اكتشاف سواء في الماضي أو الحاضر، يضع حجر الأساس للابتكارات القادمة، ويثبت أنّ العلم الحقيقي يمزج بين التجربة العملية، المسؤولية الأخلاقية، والابتكار الذي يتجاوز حدود الزمان والمكان.