د. سامي بن عبدالله الدبيخي
في مقابلته «مع باقيس» أتحفنا الأمير الدكتور خالد بن عبدالله بن مقرن آل سعود باستعراض خبرته الطويلة في التصميم البيئي تناول فيها تطور مفهوم الاستدامة العمرانية مبرزًا أهمية الفهم العميق للتحديات البيئية المعاصرة وكيفية التعامل معها من خلال التصميم الذي يراعي العلاقة المتبادلة بين البيئة والطريقة التي نبني بها مدننا ومبانينا بغرض إقامة المباني «صفرية الطاقة» وتحقيق الاستدامة.
فالعمارة من منظور سموه ليست مجرد فن أو علم بل هي أيضًا مسؤولية تجاه البيئة والمجتمع. ووفق هذا المفهوم فإن التصميم البيئي ليس خيارًا بل ضرورة لتحقيق الاستدامة في العمران من خلال دمج عناصر الطبيعة في التصميم لضمان أقصى درجات الكفاءة الطاقية في المدينة واستدامتها.
يستعرض الدكتور خالد السياق التاريخي لتطور العمارة مبرزًا أنها كانت عبر تاريخها الطويل «بيئية» بامتياز، إلا أنه مع بزوغ العمارة الحديثة في القرن العشرين، حدثت ما يمكن تسميته بـ»القطيعة المعرفية». فمع توفر الطاقة الأحفورية الرخيصة وانتشار أنظمة التكييف الميكانيكي، لم يعد المعماري مضطرًا للتعامل مع تحديات المناخ. فتحولت المباني تدريجيًا إلى صناديق زجاجية مغلقة ومعزولة عن محيطها، ويمكن تبريدها أو تدفئتها بقوة الكهرباء. وكما أشار سموه في نقاشه الثري في بودكاست «مع باقيس» حول الاستدامة العمرانية، فإن هذا التوجه أدى إلى «نسيان عظيم» للحكمة البيئية المتوارثة عبر الأجيال، واستبدال الحلول التصميمية السلبية الطبيعية (Natural Passive Design) بالحلول الميكانيكية النشطة (Active Systems).
فمن بيوت الطين في نجد إلى الرواشين في الحجاز، كانت المباني التقليدية نتاج فهم عميق للمناخ المحلي والمواد المتاحة، حيث صُممت لتوفير الراحة الحرارية بأقل قدر من الموارد، فكانت هذه عمارة تتنفس مع بيئتها. أما العمارة الحديثة فقد أغفلت إلى حد كبير الجوانب البيئية، مما أدى إلى استنزاف الموارد وتفاقم الأزمات البيئية. فجاءت أزمة النفط العالمية في السبعينات، لتعيد النظر في فكرة أن التكنولوجيا قادرة على التغلب على الطبيعة، لتبدأ نظرة جديدة في الظهور، يكون التركيز فيها أساسًا على تقليل استهلاك الطاقة في المباني.
فهذا الشح المفاجئ في موارد الطاقة الأحفورية كان بمثابة جرس إنذار عالمي، أجبر الحكومات والمجتمعات على إعادة التفكير في أنماط استهلاكها. وكان قطاع المباني، الذي يستهلك نسبة هائلة من الطاقة (تتعدى في بعض الحالات 40 %)، في قلب هذا النقاش. فكان ذلك بمثابة دعوة للتغيير نحو تصاميم أكثر كفاءة واستدامة.
هنا بدأت بذور حركة «العمارة الخضراء والمستدامة» في الظهور. فسعى الباحثون والمصممون لاستكشاف طرق لتقليل اعتماد المباني على الطاقة التقليدية. في البداية، كان التركيز منصبًا على تحسين كفاءة الأنظمة الميكانيكية واستخدام مواد عزل أفضل. لكن سرعان ما أدرك الرواد أن الحل الأكثر جذرية يكمن في العودة إلى المبادئ الأساسية للتصميم البيئي: تقليل الطلب على الطاقة أولًا، ثم تلبية هذا الطلب المخفض من مصادر متجددة. وهذا هو جوهر مفهوم المباني صفرية الطاقة (Net Zero Energy Buildings).
بهذا المعنى فإن المباني صفرية الطاقة ليست مجرد ابتكار تكنولوجي حديث، بل هي عودة متطورة، مدعومة بالعلم والتقنية، إلى المبدأ الأساسي الذي حكم العمارة لآلاف السنين، وهو أن المبنى يجب أن يكون جزءًا من نظامه البيئي، لا عبئًا عليه. وهذا هو المدخل الفكري الذي يقدمه الدكتور خالد المقرن، حيث يبدأ من التأكيد على أن الاعتماد على الطاقة الأحفورية هو ظاهرة حديثة نسبيًا ارتبطت بالثورة الصناعية، وأن العودة إلى استغلال الموارد الطبيعية هي السبيل نحو مستقبل مستدام.
كأكاديمي متمرس ونائب لوزير التعليم سابقًا، كانت إحدى الميزات البارزة في أسلوب سموه هي اعتماده على الحالات الدراسية بدلاً من المحاضرات التلقينية. هذا النهج يتيح للطلاب فرصة تحليل مشكلات حقيقية وتقديم حلول مبتكرة، مما يعزز قدرتهم على التفكير النقدي ويجعل التعليم أكثر تفاعلية وواقعية. فبدلًا من تقديم المفاهيم النظرية بشكل مجرد، يعتمد المقرر على أسلوب دراسة الحالة (Case Study Method). وقد تمخض عن هذا الأسلوب 11 إصدارًا حول موضوع المباني صفرية الطاقة هي خلاصة عمل طلاب وطالبات الدراسات العليا ومتاحة للجميع.