خالد محمد الدوس
ولد عالم الاجتماع «جان بودريار» في قرية رانس الواقعة في الشمال الشرقي من فرنسا عام 1929م من أصل عائلة ريفية، وبعد أن أنهى تعليمه العام انتقل إلى العاصمة باريس والتحق بالدراسة الجامعية في (جامعة السوربون) ودرس اللغة الألمانية في كلية الآداب، وقد تأثر كثيرا بالعلماء المفكرين الألمان مثل كارل ماركس الأب الروحي للنظرية الصراعية، والعالم فلهيلم مولمان، وبعد حصوله على البكالوريوس واصل تعلميه العالي وانتهى به المطاف أطروحة الدكتوراه في علم الاجتماع عام 1968م والتي جاءت بعنوان: «نظام الحاجات» تحت إشراف العالم «هنري ليفيفر»، حلل فيها كيفية تحول السلع إلى علامات في نظام الاستهلاك في المجتمع، وبعد تخرجه من جامعة السوربون العريقة عين أستاذ مساعد في جامعة غرب باريس (نانتير لاديفونس) وعمل في صرحها الاكاديمي سنوات طويلة.
كما كانت له مقالات علمية بأسلوب أكثر أدبية وفلسفية مليئة بالمفارقات والاستعارات.. ركزت على نقد المجتمع الاستهلاكي من خلال المنظور السيميولوجيا والماركسية، وتدرج في العمل الأكاديمي إلى أن وصل إلى درجة الأستاذية في علم الاجتماع.
وخلال مسيرته العلمية والتعليمية قدم العديد من المؤلفات المتميزة والأبحاث الثرية، وعلى وجد التحديد في علم الاجتماع الاقتصادي ومن أبرز كتبه: كتاب «نظام الأشياء» حلل فيه كيفية تحول السلع إلى علامات في نظام الاستهلاك، وكتاب المصطنع والاصطناع، وهو تشخيص فلسفي لمرض العصر «فقدان الاتصال بالواقع» واستبداله بعالم من الصور والعلامات الاصطناعية التي تخلق واقعا مختلفاً (الواقع المفرط) الذي يعيش فيه الكثير بحسب رأي مؤلفه..!!، وكتاب»مجتمع الاستهلاك» وسّع فيه نقده لمجتمع يعتمد على الاستهلاك كقيمة مركزية، ويعد هذا المؤلف الثري مساهمة أساسية في علم الاجتماع والفلسفة المعاصرين، والمجتمع الاستهلاكي، وبحسب معطيات علم الاجتماع الاقتصادي.. هو نوع المجتمع الذي يقوم فيه النظام الاقتصادي على الاستهلاك الشامل، وتؤدي فيه الزيادة في الإنتاج إلى تكاثر المنتجات التي سيتم استهلاكها وثم خلق احتياجات ورغبات جديدة. ولذلك اعتبر العالم «جون بودريار» أن الاستهلاك في المجتمعات الغربية هو عنصر هيكلي للعلاقات الاجتماعية.
كان يعد أحد أبرز المنظرين الاجتماعيين والفلاسفة الفرنسيين في القرن العشرين، تمتع برؤية نقدية حادة للمجتمع الاستهلاكي المعاصر ووسائل الإعلام، لكونه عرف عنه الجراءة في طرح الأفكار المثيرة للجدل حول الاستهلاك والوسائط والواقع والاصطناعية (الانزياح عن الأصل). وكتاب التبادل الرمزي، وكتاب «الحرب الخليفية لم تقع». وكتاب «مرآة الإنتاج». وكتاب «عنف العالم» وهو من الكتب المهمة التي تناولت قضية العنف في المجتمعات المختلفة والذي يشكل وبحسب -رؤية مؤلفه- تحديا كبيرا لحقوق الانسان والسلم والأمن في العالم، ويستعرض الكتاب أشكال العنف المختلفة في العالم سواء كان ذلك في صور الحرب أو صراعات داخلية أو جرائم عنف أخرى..!!
طور العالم الراحل «جان بودريار» نظريته الأكثر شهرة والتي تقول إن الوسائط والإعلام خلقت «واقعا افتراضيا» (انزياح عن الأصل) يحل محل الواقع الحقيقي في هذا النظام، كما أثرت أفكاره بشكل كبير على صناع السينما. وبنت أفكاره على الواقع الاصطناعي والفن. ويرى ومن خلال كتاباته أننا نعيش في عصر «الانزياح عن الأصل» حيث أصبحت الصور والإعلام والتقنيات تنتج واقعا أكثر من الواقع نفسه مما يؤدي إلى «اختفاء الواقع».
كما طور بودريار نظرية «الاغراء» كنقيض للإنتاج، فبينما يركز المجتمع الحديث على الإنتاج والقيمة.. يرى أن الاغراء «هو قوة أكثر أساسية تلعب بالعلامات والرموز، كما تناول ضمن أبحاثه التبادل الرمزي» وهو مفهوم استمده من علم الأناسة (الاثنولوجيا).
كما تقدم نظرية جون بودريار للواقعية المفرطة في سياق علم الاجتماع الثقافي رؤى قيمة في مشهد الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، فهي-وبحسب بودريار- تدفعنا إلى دراسة نقدية لطمس الحدود بين الواقعي والافتراضي ونشوء هويات مفرطة للواقعية، وتسليع الاهتمام، ويشير في هذا السياق (بودريار) أن فهم الطبيعة المفرطة للواقعية لوسائل التواصل الاجتماعي يمكننا من خوض غمار العالم الافتراضي بوعي أكبر وتعزيز الروابط الحقيقية وتقبل الأصالة وإدراك احتمال الانفصال عن ذواتنا الحقيقية. وبالطبع تسعى نظرية (بودريار) إلى إيجاد التوازن بين الواقعي المفرط والواقعي الحقيقي وإيجاد المعنى والاتصال خارج نطاق المحاكاة والتمثيلات التي تتخلل الشاشات الرقمية.
كما حلل الظاهرة الإعلامية الاتصالية وعلاقتها باختفاء الواقع وكيفية صوغ النموذج الاصطناعي للمتلقي، مما أدى إلى اختصار البعد الاجتماعي في صورة مشفرة إعلاميا، أي نسخ صورة عن نسخة أخرى من دون إثبات المرجعية الحقيقية الأصلية، وفي توضيح له يشير إلى أنه «عندما يكتفي الرمز بذاته ويكون هو مرجعية نفسه يصبح ما يدل عليه هذا الرمز من خارج الواقع، ويظهر ما «فوق الواقع»..!!
ولذلك كان العالم الراحل جان بودريار فيلسوفا استطاع أن يقرأ روح العصر، ويقدم مفاتيح لفهم العالم الافتراضي والمعقد الذي نعيشه اليوم. وقد قدم إسهامات بارزة في علم الاجتماع الثقافي والاقتصادي كواحد من العلماء الاجتماعيين المؤثرين في واقعنا المعاصر.
توفي العالم والفيلسوف «جان بودريار» في العاصمة الفرنسية باريس عام 2007م عن عمر يناهز 77 عاما بعد أن ترك إرثاً غنياً من الأفكار والتأثيرات التي تجاوزت عالم الاجتماع لتصل إلى مجالات الثقافة والاقتصاد والفنون والدراسات الإعلامية.