عبدالله العولقي
يُعدُّ الكاتبُ النمساويُّ ستيفن زفايج (1881م-1944م) منْ أهمّ الكتاب العالمييّن في النصف الأول من القرن العشرين، وتعودُ أهميّته إلى شهرته الواسعة في فضاء الأدب الأوروبي والعالمي وقدراته الكتابيّة الفذّة على سبر أغوار سير الكُتاب المبدعين والخوض في أعماق شخصيّاتهم، وقدرتُه العجيبة على إدهاش القارئ في فكّ رموز الشخصيّات التي يتناولها، وحديثنا اليوم عن آخر الكتب التي أصدرها زفايج في حياته بعنوان (بلزاك، سيرة حياة) والذي صدر بعدة ترجمات عربية، منها ترجمة الأستاذ محمد جديد عن الهيئة العامة السوريّة للكتاب في 2007م، ، فحديثنا اليوم عن اسمين كبيرين في عالم الأدب الإنساني.
لقد صوّر لنا زفايج بأسلوبه المُمتع تلك الطفولة البائسة التي عاشها الروائيُّ الفرنسيُّ بلزاك (1799م - 1850م) ونشأته القاسية الحزينة وكأنك تُشاهدُ فيلماً سينمائيّاً بديعاً يُصوّر آهات الألم والصعوبات التي تجرّعها بلزاك في بداياته الأولى، فعندما بلغ الثانية عشرة من عمره كانت الضائقةُ المالية تُحيطُ بأسرته من كل حدبٍ وصوب، لكنّ الفتى الصغير بلزاك كان يهربُ من ضيقِ فقره وواقعهِ المرير إلى فساحة عالم القراءة الحرّة والاطلاع.
يقول الأستاذ علي أدهم: لقدْ كان بلزاكُ غارقاً في عالم الكتب يُلطّف همومه ويُخفّفُ آلامه، لقد كان يلتهمُ الكتبَ المتنوّعة في الفلسفة والعلوم والدين والأدب، وهكذا ديدنُه حتى اختزنَ عقله حقائق ومعلومات عديدة وألواناً كثيرة من المعرفة، فقد كان سريعُ القراءة، قويُّ التحصيل، عجيبُ الذاكرة، تستوعبُ ذاكرته كلَّ ما قرأه أو سمعه، فلا تغيبُ عنه شاردةً أوْ واردة!!.
في عام 1814م، أدخله والدُه المدرسة الابتدائية، فكان مُعلّموه يشتكون من عدم اهتمامه بالحفظ ِوالدّراسة، لقد كان ذهنُه سارحاً في عالم الأدب والفن، يستغرقُ وقته في كتب فولتير وأشعار لامارتين وأدب هوجو، وفي يومٍ من الأيام، اشتكتْ إدارةُ المدرسة هذا الفتى المُتمرّد إلى أسرته التي ما برحتْ في محاولات الضغط على بلزاك من أجلِ إكمالِ تعليمه ونيل الشهادة، وهكذا بقيَ بلزاكُ في معاناةٍ مستمرةٍ مع النظامِ التعليميّ حتى تخرّجَ بصعوبةٍ من الجامعةِ بدرجة البكالوريوس في المحاماة، وهنا التقطَ والداهُ أنفاسَهما وهدأتْ روحُهما قليلاً، فقد اعتبرا أنّ ابنهما قدْ ضمنَ له مهنةً تدرُّ عليه مالاً يستطيعُ من خلالها أنْ يُدبّر أمور معيشته، ولكنْ هيهات هيهات، فقدْ رفضَ بلزاك وظيفة المحاماة، وأصرّ أنْ يُكمل طريقه في عالم الأدب والرواية ممّا جعله يدخلُ في صراعٍ فكريٍّ مع عائلته التي قرّرت الرحيلَ من ضيقِ المعيشة في باريس إلى الريف الفرنسي من أجل الاقتصاد في مصاريف الأسرة!!.
لقدْ كانتْ أسرتُه تعتقدُ أنّ الكتابة الأدبيّة لا يُمكنُ أنْ تضمنَ لابنهما مستقبلاً هانئاً، فالأدبُ عندهم هو نوعٌ من الترفِ الاجتماعي، ينغمسُ فيه أصحابُ الطبقة الاجتماعية العليا في باريس وحدهم من أمثال السيّد شاتوبريان أو النبيل الارستقراطي الفونسو لامارتين!، أمّا أبناء الطبقة الوسطى فلا يحقُّ لهم إلا البحث عن وظيفةٍ تدرُّ عليهم مالاً يكفيهم للعيش!!،
هكذا كانت نظرةُ أسرة بلزاك للأدب والكتابة، أمّا الفتى فقدْ أصرّ أنْ يبقى في باريس، وأمام عنادِه الشديد فقدْ رضختْ أسرتُه أمام رغبته وحلمه، فاستأجرتْ له والدتُه حجرةً ضيقة قذرةً مظلمةً حتى ينفرَ منها ويعودُ معهم إلى الريف، لكنه تحمّلَ كلّ هذه الظروف القاسية!، وفي هذه الغرفة الضيّقة أعدّ بلزاك أوراقه وأقلامه، وانهمكَ يكتبُ ليلاً ونهاراً، مستغرقاً في عالمه الفني وفضائه الأدبي، لا يتوقّفُ صريرُ قلمه إلا إذا غلبه النعاسُ، فينامُ بين كومة أوراقه وأقلامه، كان يتغلّب على النوم بطنجرة كاملة يملؤها من البُنِّ الغامق، ويظلُّ يحتسي منها حتى ينتصرَ النومُ أخيراً على قهوته السوداء!!.
لقد اتفقَ بلزاك مع أسرته أنْ يبقى في هذه الغرفة مدةً سنةً كاملة حتى يُقنعهم بفكرته أنّه يستطيعُ أنْ يتدبرَ أمور معيشته من عائدِ رواياته ومسرحيّاته، أو أنْ يقتنعَ برأيهم ويعملُ في المحاماة أو يرجع معهم إلى ريفِ باريس، وأمام هذا التحدّي الكبير كان بلزاك في سباقٍ محتدٍّ مع الوقت، فكتب مسرحية (مأساة كرومويل) وما أن انتهى منها حتى ذهبَ سريعاً إلى عائلته في الريف، وقرأ عليهم مسرحيته الجديدة، فقرّر والدُه أنْ يعرضها على ناقدٍ أدبيٍّ حتى يعرفَ مستواها الفني، فكان قرارُ الناقد أنها غير جيّدة!!، فأُصيب بلزاك بالحسرة، لكنّه عاد سريعاً إلى حجرته في باريس، وقرّر هذه المرة أنْ يكتبَ في فنّ الرواية قبل أنْ تنتهي مدة الاتفاق مع أسرته، فكتب قصة (فالترن) فكان نصيبُها من الفشل مثل نصيب مسرحيته الأولى!، وهنا تدخّلت العائلة وهدّده أبوه بأنّ المدة قدْ أوشكتْ على الانتهاء، وأنّ عليه أنْ يضعَ حدّاً لهذا الفشل المتوالي!!.
لقد احتملَ بلزاك كلّ ضروب الحرمان، وبذ لَ أقصى ما يستطيعُ من جهدٍ ليعتمدَ على نفسه ويصبح في غنىً عن مساعدة أسرته، ولكنّ جهودَه ذهبتْ مع أدراج الرياح!، فعاش حياةً تكاد تكونُ أقرب إلى التشرد والضياع، لقد كان بلزاك مُؤمناً بينبوع الأفكار المحتشدة في ذهنه، فكان يتغلبُ على ظروفه القاهرة بقوّته العجيبة من التحدّي والإصرار، لقدْ استطاع بلزاك بجهده المتواصل ألّا يستسلم مهما كانت العوائق والتحديّات، وأنْ يُحقّقَ استقلاله الأدبي وبناء مجدِه الثقافيِّ رغمَ كلّ محاولاتِ أُسرته في ردعه عن أحْلامه!!، لقد استمرّ بلزاك في الكتابة غير عابئٍ بالكلمات القاسية التي كانت أسرتُه تُردّدها أمامه، كان يسمعُ عبارة (لماذا لا تعترف بالهزيمة؟) بصورةٍ شبه يومية، ورغم ذلك كان يُحوّلها في عقله الباطن إلى عبارة (لماذا لا أستمرُّ حتى أصلَ إلى تحقيق حُلمي الأدبي؟)، لقدْ بقيَ في طريقه لوحده دون أيِّ مساعدةٍ من أسرته حتى أصبحَ الرقم الأوّل في الأدب الفرنسي، لقد أخرج في آخر عشرين سنة من عمره (عاش 51 عاماً فقط) حوالي سبعين قصة يكاد يُجمعُ النقاد حول العالم أنها جميعُها من أبدع روائع الأدب العالمي!!.
لقد كان بلزاكُ يحترمُ مهنة الأدب والكتابة إلى درجةٍ عاليةٍ جداً، فإذا عكفَ على كتابة رواية أو مسرحيّة لا ينفكُّ من التفكير في أحداثها وشخوصها وأمكنتها حتى يشكَّ الأخرون في جنونه!، فكان ينتفضُ من فراشه في منتصف الليل فزعاً ومهرولاً إلى مكتبه والناس غرقى في نومهم وأحلامهم، فينهمكُ في الكتابة المتواصلة حتى الساعة الثامنة صباحاً، مستعيناً بأفكاره المتدفقة على قلمه وفكره مثل السيل الجارف، وإذا استعصت الأفكارُ عليه كان يشربُ المزيد من أقداح القهوة!!.
لقد وصلَ بلزاك أخيراً إلى مجده الأدبي، وبدأتْ مبيعاتُ رواياته ومسرحياته تُحقق أرقاماً قياسيّة في المبيعات داخل فرنسا وخارجها، وأصبح حديثُ المجالسِ الأدبيّة والصالونات الثقافيّة في أوروبا كلها، لقد انبهرتْ أسرتُه وبقيت مندهشةً أمام عبقريّة ابنها الذي نجح في تحقيق أحلامه رغم التحديّات والعقبات التي وضعوها أمامه!، لقد بلغ طموحُه الذي تمنّاه في طفولته بطريقٍ عسرٍ لمْ يكنْ مفروشاً أبداً بالورود، فقد تجرّع بلزاك آلام الخيبة والإخفاق كثيراً، وذاق مرارة الهزيمة والفشل، وهنا يجبْ أنْ نُلخّص مسيرته الأدبيّة بأنّ نجاحاته تكمنْ في قوة إرادته الجبّارة وإصراره القوي وتمسّكه النفسي والذهني في تحقيق حلمه مهما بلغت التحديات!!، وهنا نعودُ إلى مؤلف سيرة بلزاك الأديب النمساوي الشهير ستيفن زفايج، ذلك الأديبُ المبدعُ الذي لمْ يكتبْ نظريّة أدبيّة واحدةً في النقد، وإنّما كلّ دراساته الأدبية كانت عنْ شخصيّات أدبيّة هامّة مثل تولستوي ودستويفسكي وبلزاك، ومن خلال تلك الدراسات عرضَ أفكاره الأدبيّة والنقديّة وعبّر عنها بإبداعيّة منقطعة النظير، فالأدبُ بالنسبة إلى زفايج حياة وروح وتعبير عميق عن النفس كما يقول الناقد رجاء النقاش، ولذا خرجتْ دراساتُه الأدبيّة وهي أعمالٌ فنيّة رائعة تكادُ تصبح رواية أو قصيدة كتبها فنانٌ عميق الإحساس والخبرة.
لقد كانت تجربتُه الواسعة في الحياة هي التي مكّنته من فهْمِ أغوار النفس البشريّة فهْماً عميقاً، فلمْ يعتمدْ على الثقافة التي استمدّها من قراءاته الكثيرة والمتعددة فحسبْ، وإنما سافر كثيراً حول العالم، وعاشر شعوباً متباينة الثقافات في آسيا وأوروبا وأمريكا، فكان قلبُه مفتوحاً لكلّ التجارب والمجتمعات الإنسانيّة، يقولُ عنه رجاءُ النقاش: لمْ يكنْ زفايج يسافرُ مثل السّائح العادي الذي يمرُّ بالأشياء والأماكن والبشر مروراً عابراً، بل كان ينفذُ إلى أعماقِ كلَّ مايراه، ولذلك استفادَ استفادة واسعة من تعدّد البيئات الثقافية التي رآها، فعندما تقرأ زفايج ستجده يُعيدُ إحياء الشخصيّة الأدبيّة، فيبثُّ فيها الحياة والنور حتى يشعرَ القارئُ بالشخصيّة وكأنّها تتحركُ وتتحدثُ أمامه، إنّ هذه الموهبة الفريدة التي يكتنزها زفايج جعلته يؤمنُ أنّ وظيفته الرسميّة في النقد هي إحياء الأديب وتراثه، وإعادة نبض الحياة إليه من خلال الكتابة عن سيرته وانسانيته، ولذا كان يُرهقُ نفسه كثيراً بالبحث عن كلّ ما يتعلق بالشخصيّة، فكان يقرأُ كلّ ورقةٍ أو قصاصةٍ أو مُسْوَدّةٍ كُتبت عن الأديب الذي يدرسه، بلْ كان يتصلُ بأسرته وأصدقائه والأشخاص الذين عرفوه، ويتواصلُ مع دور النشر التي تعامل معها!!، وهكذا لا يدعُ شاردةً ولا واردةً حتى يدرسها دراسة تأمليّة فاحصة، فكان مُخْلصاً لوظيفته النقديّة إخلاصاً يجعله في مقدمة النقاد الكبار.
كلُّ هذه الخبرة الثقافية العظيمة التي اكتسبها زفايج جعلته يتمتعُ بذائقةٍ أدبيةٍ رفيعةٍ، فلمْ يكتبْ عن أيّ أديبٍ أو شاعر، بلْ كان يختارُ شخصيّاته بعنايةٍ فائقةٍ لأنّ همَّه الأول هو البحث عن المعنى الإنساني داخل شخصيّة المبدع، ولذا نجدْه يكتبُ فقط عن أهمِّ أدباء الإنسانيّة الكبار في التاريخ الحديث ومنْهم بلزاك طبعاً، لقدْ أُعجب زفايج بشخصيّة بلزاك وإنسانيّته إلى حدٍ بعيد، فظلّ يبحثُ وراءَ سيرته عن كلّ الخيوط الصغيرة التي شكّلت عبقريّته الفريدة، وإبداعاته المتميّزة في الأدبِ الفرنسي، فجاءتْ دراستُه عنه مميزةً تسْتحقُّ القراءة والاعجاب، لقدْ تركتْ سيرة بلزاك التي كتبها زفايج عنه أثراً عميقاً في نفوس القرّاء في الشرقِ والغرب، وهذه نتيجة طبيعيّة عندما يكتبُ مبدعٌ عظيمٌ بحجم زفايج عن مبدعِ كبيرٍ بقامة بلزاك.