د. إبراهيم بن جلال فضلون
في كل عام، ينتظر السعوديون الخطاب الملكي السنوي الذي يلقيه ولي العهد رئيس مجلس الوزراء صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود - نيابة عن سيدى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز - لما يحمله من إشارات وتوجهات عُليا تشكل بوصلة عمل مجلس الشورى الذي أصبح خلال السنوات الأخيرة لاعبًا مؤثرًا في صياغة سياسات التنمية الاقتصادية، ومحرّكًا لجهود رؤية 2030 التي تستهدف تنويع الاقتصاد وتعزيز مكانة المملكة إقليميًا وعالميًا.
هذا الخطاب لا يمثل مجرد حدث بروتوكولي، بل هو لحظة وعي وطني، تترجم فيها القيادة الحكيمة رؤيتها لمستقبل الدولة سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، ليصبح مجلس الشورى شريكًا فاعلًا في مسيرة التنمية والتحولات الكبرى التي تشهدها المملكة، وليس فقط ليس مجرد هيئة استشارية تقليدية على ورقٍ دستورِيّ، فمنذ تأسيسه، يمثل مجلس الشورى تجسيدًا لمبدأ إسلامي أصيل يقوم على المشاورة وتبادل الرأي، لكنه اليوم يتجاوز الإطار التقليدي إلى فضاء أوسع من العمل التشريعي والرقابي.
إنه منبر لنقل هموم المواطنين ومناقشة قضاياهم بحضور مكثف للمسؤولين أمام المجلس - والذي بلغ 248 مسؤولًا في عام واحد - مما يعكس انفتاح الدولة على الرقابة البرلمانية ويعزز من ثقافة المساءلة، ودعم قضايا اجتماعية حيوية مثل تمكين المرأة وزيادة مشاركتها في التنمية، وتطوير التشريعات الخاصة بالتعليم والصحة. هذه الجهود تترجم عمليًا التوجهات العليا في الخطاب الملكي، وتضع المواطن في قلب عملية التنمية.
وقد شهد العام الأول من الدورة التاسعة للمجلس نشاطًا مكثفًا تُرجم في 462 قرارًا على مدى 41 جلسة، بالإضافة إلى 315 اجتماعًا للجان المتخصصة حضرها أكثر من 248 مسؤولًا حكوميًا، وهي - أرقام تعكس كثافة عمل تشريعي واحتكاكًا دائمًا بالجهاز التنفيذي والمؤسسات الاقتصادية. هذه الكثافة تعمل على تسريع «دورة السياسات» وتكامل الأدوار بين مؤسسات الدولة بتحسين استجابة الحكومة لاحتياجات القطاع الخاص والمستثمرين. فيشارك بصورة منتظمة في مناقشة برامج ومشروعات تتعلق برؤية المملكة 2030، وفي مراجعة تقارير الجهات التي تنفّذ مشاريع الرؤية وتقلّص فجوة التنفيذ بين الرؤية والنتائج المعلنة، وتساعد على توجيه الموارد نحو ملفات نموّية ذات مردود اقتصادي عالٍ بمؤشرات أداء للاقتصاد السعودي غير النفطي نما بنسبة 4.5% في 2024، وبنسبة 3.9% في الربع الثاني من 2025، بقوة أرقام صندوق النقد الدولي بنمو غير نفطي ملحوظ، مع توقّع نموًا حقيقيًا مرتقبًا 3% للاقتصاد، واستمرار توسع الأنشطة غير النفطية، بل وأسهم في مراجعة واعتماد ميزانية الدولة لعام 2025، والتي بلغت 1.285 مليار ريال مصروفات مقابل 1.184 مليار ريال إيرادات.. ويتجلى الأثر الاقتصادي للشورى أيضًا في دعمه للتشريعات التي عززت سوق العقار، حيث ارتفعت نسبة الرهون العقارية بأكثر من 212% عام 2019، وأسهم في تنظيم سوق العمل وزيادة مشاركة المرأة والشباب. لكن الأثر الأعمق يتمثل في تعزيز الثقة الدولية بالاقتصاد السعودي.
فالمستثمر الأجنبي ينظر إلى مجلس الشورى كضامن للشفافية والمساءلة، الأمر الذي يعزز تنافسية المملكة عالميًا ويؤكد مكانتها ضمن مجموعة العشرين (G20)، وهُنا يُبرز دور المجلس كمنصة للدبلوماسية البرلمانية، حيث سجل 146 نشاطًا داخليًا وخارجيًا خلال عام واحد، أسهمت في تعزيز العلاقات الدولية وتبادل الخبرات، بما يعكس المكانة المتنامية للمملكة سياسيًا واقتصاديًا. هذا الدور السياسي للشورى يتقاطع مع سياسة المملكة الخارجية المتوازنة، القائمة على بناء الشراكات الاستراتيجية ودعم القضايا العادلة عالميًا.
إنه إرث أصيل ورؤية مستقبلية، جسر بين الماضي والمستقبل. يجسد أصالة المبدأ الإسلامي في الشورى، ويترجمه في سياق حديث يتواءم مع متطلبات التنمية العصرية، ويثبت أنه عنصر رئيس في مسيرة التحولات الاقتصادية الكبرى، وفي تعزيز الحضور السياسي والدبلوماسي للمملكة..
إنها رسالة واضحة: الشورى في السعودية ليست ماضيا يُستحضر، بل حاضر يُبنى ومستقبل يُصنع.