د. عبدالحق عزوزي
هناك اليوم عواصم مثل واشنطن وبكين وموسكو تتكئ على نظريات كارل فون كلوزفيتز، الجنرال والمؤرِّخ الحربي البروسي من القرن الثامن عشر، ونظريات سون تزو، الجنرال والخبير العسكري الصيني من القرن السادس قبل الميلاد؛ وهذا المنحى يسير ضد بعض التنظيرات الفكرية التي أتى بها مفكرون إستراتيجيون من أمثال جوزيف ناي.
ولهذا الأدميرال الذي توفي مؤخراً والذي كان عميداً في جامعة هارفرد، كتابان قيمان دائماً ما أنصح طلبتي بقراءتهما، الأول: «ملزمون بالقيادة: الطبيعة المتغيرة للقوة الأميركية - 1990» نظر فيه قدرة الأمة في الوصول إلى التأثير العالمي من خلال وسائل غير قسرية، وانطلاقاً من الجاذبيّة والإغواء بدلاً من الإكراه السافر والقوة الخشنة والقوة العارية. والثاني: سماه «القوة الناعمة: معاني النجاح في السياسات الدولية» وأكد في أكثر من فصل مزايا الدبلوماسية والقوة الناعمة التي تتأتى من جاذبيتها الثقافية أو السياسية أو ما سواها وهي التي يمكنها أن تحقق الهيمنة الثقافية، فنجده يكتب مثلاً: «إنه وإن أمكن الوصول إلى الأهداف من خلال القوى الخشنة، ومن خلال استعمال القوة من قبل القوى الكبرى، إلا أنه قد يشكِّل خطراً على أهدافها وتطلعاتها الاقتصادية والسياسية وحتى الثقافية»، لذا فأمريكا: «إن أرادت أن تبقى قوية، فعلى الأمريكيين أن ينتبهوا إلى قوتهم الناعمة».
كان جوزيف ناي يجمع بين التنظير والممارسة، لذا كانت كتاباته تتسم بالكثير من الجاذبية؛ وكان أحد المؤسسين البارزين لكلية كيندي للإدارة الحكومية، وهي بمثابة شركة لإنتاج العقول الإستراتيجية والسياسات العمومية الأمريكية واشتغل مناصب حكومية متعددة في عهد الرئيسين جيمي كارتر وبيل كلينتون.
في عز أزمة كوفيد كتب جوزيف ناي مقالة بـ «بروجيكت سانديكيت» عنونها بـ : «الجغرافيا السياسية بعد الجائحة»، وذكر فيها أن تقديرات التأثيرات على المدى الطويل للجائحة ليست دقيقة؛ وأضاف أنه لا يوجد تصور مستقبلي واحد مضمون الحدوث حتى عام (2030) وبدلًا من ذلك يتنبأ بإمكانية حدوث خمسة سيناريوهات محتملة كالتالي:
1- نهاية النظام الليبرالي العالمي.
2- استبداد سلطوي يشبه فترة الثلاثينات.
3- نظام عالمي تهيمن عليه الصين.
4- أجندة دولية خضراء.
5- استمرار الوضع الحالي.
ولكن هاته النظريات والسيناريوهات العامة رغم أهميتها تحتاج إلى شرح وإلى تصويب أكبر...
صحيح أن الرئيس الأمريكي أخذ قرار إغلاق الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية وخرج من بعض المنظمات الدولية وقبر مسألة القيم التي هي واحدة من قواعد القوة الناعمة.
ولكن هل انتهت مظاهر وتأثيرات القوة الناعمة الأمريكية؟ بالتأكيد لا. فهي موجودة مع القوة الخشنة والقوة العرية والقوة الذكية؛ لأن الكثير من تجليات القوة الناعمة الأمريكية تظهر في منتوجات المجتمع المدني اللا متناهية والمتشعبة والمتطورة، وتعطيها المقدمة عالميا في مجالات مثل التكنولوجيا والبحث العلمي والسينما والأغاني واللغة الإنجليزية والإعلام وبعض مظاهر الأكل واللباس.
وأفضل مثال يمكن أن نعطيه هنا هو شبكة نيتفلكس التي وصل عدد المشتركين فيها إلى 301.6 مليون مشترك حول العالم اعتبارًا من عام 2025، وتدفع الصغير والكبير، بل وحتى حكومات العالم للتفاعل مع أعمالها الدرامية والوثائقية..
وهذا المثال الذي أعطيه لا تفلح فيه إلا البلدان أو الشركات التي لها صناعة ثقافية كبرى ويمكنها أن تجلب عددا وافرا من المستهلكين للثقافة أي أنها تملك مقاليد القوة الناعمة وتجعل لغات العالم وثقافات البلدان تحت محك تحديات كبيرة.
وصحيح أننا نعيش في استمرار تآكل النظام العالمي الليبرالي وعودة الفاشية في بعض مناطق العالم. ولكن هذا لن يمنع من ولادة جديدة لليبرالية. فالأزمات الكبيرة قد تؤدي في بعض الأحيان إلى نتائج غير متوقعة في العادة. فالكساد العظيم أدى إلى انبعاث النعرات الانعزالية والقومية والفاشية وإلى اندلاع الحرب العالمية الثانية. غير أن ذلك الكساد نتج عنه لا محالة إطلاق مجموعة من البرامج الاقتصادية في أميركا عُرفت باسم «الصفقة الجديدة»، وبروز الولايات المتحدة كقوة عالمية عظمى، وتصفية الاستعمار في نهاية المطاف..
وأخيراً إذا سلمنا خلافاً لما تكهن به ناي، أنه لن يتم تبني أجندة دولية خضراء أكثر واقعية مع الانعزالية الأمريكية وانسحابها من اتفاقية باريس حول المناخ، فإنه في المقابل سنشهد تصاعد النبرات القومية في العديد من دول العالم مما سيؤدي إلى تفاقم محتمل للصراع الدولي.