مرفت بخاري
ما أجمل الصداقة حين تكون صافيةً من شوائب المصلحة، خالصةً للودّ والروح. تلك اللقاءات التي تُنعش القلب وتُرمم التعب، حين تجتمع الأرواح لا لتستعرض ما تملك، بل لتتبادل دفء الحضور وسكينة الحديث. فالتجمّعات النسائية في أصلها كانت نوافذ تُطل منها القلوب على الفرح، تواسي وتؤنس، وتعيد ترتيب الفوضى الداخلية بمعنى بسيط اسمه «الونس».
لكن.. شيئًا ما تغيّر.
تبدّل النقاء بتكلّف، والبساطة بمظاهر متأنقة تخفي وراءها قلق المقارنة. أصبحت الصداقة اليوم تُختبر لا بصدق المودة، بل بحجم الولائم وفخامة الاستراحات وكمّ الورود والمطبوعات. حتى سُمّيت بينهن «عزيمة بقرض» - عزيمة تستند على استدانة -، وتُقام لا بدافع الكرم، بل خوف من أن يُقال: لم تفعل مثل غيرها.
في هذا المشهد الجديد، تتشارك الصديقات في جمع المال، لا لتخفيف العبء، بل لتجميل المظهر أمام بعضهن. تُحجز الاستراحة، يُستأجر البوفيه، تُستقدم العاملات، وتُوزّع الهدايا وكأن المناسبة حفل زفاف مصغّر لا زيارة ودّية. تُصرف الأموال بسخاءٍ مُرهِق، وتُزيَّن الموائد بألوانٍ من الأطعمة والورود، ثم يُلتقط ما يكفي من الصور ليُخلّد اليوم في ذاكرة المظاهر، لا في ذاكرة المحبة.
لم يكن هذا التحوّل وليد الصدفة، بل كان نتيجة تأثيرٍ مباشر لمشهورات وسائل التواصل الاجتماعي، اللواتي ابتكرن هذه الأجواء وتباهين بها أمام المتابعين حتى أصبحت قاعدةً تُقلَّد. فتحوّلت موائد العزائم إلى لوحات إعلانية لشركات الطعام والتقديم والحلويات والورود، وصارت النساء يلهثن خلف ذات التفاصيل الباذخة رغبةً في محاكاة تلك الصور البراقة. لقد أصبح التأثير المجتمعي لهن مؤلمًا، لأنه بدّل النوايا، وأربك الموازين، وجعل البساطة تُرى فقرًا، والاعتدال تقصيرًا.
إن ما يثير الأسى ليس فقط التبذير في المال والجهد، بل في المعنى.
فالكرم حين يُفرّغ من روحه يتحوّل إلى عبء. والعزيمة التي تُقام بدَين تُطفئ من نورها أكثر مما تضيء.
أما الأثر الخفي، فهو ما يتركه هذا التكلف في نفوس الأزواج والأبناء، الذين يرون هذه المظاهر فتصبح الموازين مختلة في عيونهم: لا فرح بلا بهرجة، ولا كرم بلا إسراف، ولا قيمة للتجمع إلا بقدر ما يُنفق عليه. وهكذا، تنطفئ روح الترابط التي كانت تجمع القلوب ببساطة.
تتباعد النفوس رغم قرب المقاعد، ويتحوّل الونس إلى منافسةٍ صامتة، يخرج منها الكلّ منهكًا ومثقلًا بالمقارنة.
والأشد وجعًا أن هذه المناسبات باتت تُقام للصديقات فقط، دون صِلات الرحم والعائلة.
فتغيب الأمهات والخالات والعمات عن تلك الولائم التي تُفتح فيها القلوب للأصدقاء وتُغلق للأقارب. فيشعر الأهل بغصّةٍ لا تُقال، وبالفرق المؤلم بين استقبالهم واستقبال الغرباء المقرّبين. وكأن روابط الدم لم تعد تجد لها مكانًا في زمن الكاميرات والمظاهر، وكأننا أمام مأساة صامتة تمزّق أواصر العائلة باسم الصداقة الزائفة.
فحين يتحوّل الكرم إلى عبء، يفقد معناه الذي أراده الله لنا.
ذلك الكرم الذي جاء في السنّة الشريفة قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه».
كرمٌ يقوم على النية الصادقة، لا على المبالغة والمظاهر.
وحفظ النعمة لا يكون بجمع بقايا الطعام بعد التبذير والتفاخر، بل يبدأ من القصد والاعتدال وعدم الإهدار أصلًا. فليس التبرع بما فاض من الطعام عملًا يُبرّد القلوب التي أرهقها الترف، بل العمل الصالح هو في تجنّب الإسراف الذي نهى الله عنه، وفي حفظ النعمة كما يحبّها المنعِم سبحانه.
ألا يجدر بنا أن نعيد للعزائم نكهتها الأولى؟
جلسة في بيتٍ بسيط تفوح فيه رائحة القهوة أكثر من عطر المائدة، وضحكات صادقة تسبقها نية خالصة.
ذلك هو الكرم الحقيقي أن تُفتح القلوب قبل الأبواب، وأن يكون اللقاء هدية لا مناسبة تُخطَّط لها بقرض.