اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
ونجاح الردع بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي نجم عنه تجنب اندلاع حرب شاملة ذات تدمير متبادل بين الطرفين، كما خلق مناخاً للاستقرار الذي امتد ظله إلى مستويات الحرب الدنيا بالشكل الذي ساعد على حماية النظام العالمي رغم ما يمر به العالم من الأزمات والتوترات مع الأخذ في الحسبان أن ذلك لا يمنع الحروب التقليدية والهجينة علاوة على ما قد يمارسه طرفا الردع من حروب بالوكالة.
والردع المتبادل يدل على أن الاستقرار النووي يمارس شكلاً من التأثير الرادع على مستوى الحرب الدنيا دون أن يمنعها، حيث إن الحرب الباردة ذات الطابع التقليدي من الصعب ردعها، ولكن يساهم الردع النووي في حصر مجال حريتها والحد من اتساع مساحتها، أما الحرب ذات السمة الهجينة البحتة فهي خارج دائرة الردع كما هو الحال بالنسبة لحرب العصابات والتنظيمات الإرهابية وتجار المخدرات والعملاء والجواسيس وأحياناً قد يكون حاميها حراميها.
ونظرية الردع اكتسبت أهمية متزايدة أثناء الحرب الباردة باعتبارها تمثِّل إستراتيجية شاملة وفاعلة تستمد فاعليتها من كونها رادعاً نووياً موثوقاً يكون في حالة تأهب دائماً لكنه لم يستخدم قط.
وكل من القوتين الأمريكية والسوفيتية شكلتا قوة ردع متضادة فيما بينهما أثناء الحرب الباردة، وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي تفرَّدت الولايات المتحدة الأمريكية بالقيام بالردع بحكم الأحادية القطبية ونظام العولمة، متصدرة المشهد سواءً في المجال العسكري أو في المجالات الأخرى، ومتخذةً من الردع وسيلة لحماية مصالحها ومنع الدول الأخرى من امتلاك الأسلحة النووية مع اعتبار نظرية إستراتيجية الردع بعد الحرب الباردة تختلف عن ما قبلها في ظل القطب الواحد ونظام العولمة وطغيان التكنولوجيا الحديثة والفضاء السيبراني والذكاء الاصطناعي.
ورغم تفرّد الولايات المتحدة الأمريكية بالأحادية القطبية وسعيها إلى احتكار سياسة الردع النووي إلا أن هناك دولاً تمتلك قدرات نووية تؤهلها لممارسة ذلك بنسبة متفاوتة من حيث قابلية التصديق ومحيط التأثير كما يظهر بالنسبة لروسيا والصين وبريطانيا وفرنسا والهند وباكستان.
وبعد أن أصبحت الصين قوة نووية فعَّالة وبلغت ما بلغته من التطور التكنولوجي الذي يُحسب له حسابه بالإضافة إلى ما تتحلَّى به من الخصائص الجغرافية والسكانية والاقتصادية والعسكرية فإنها أثبتت وجودها كمتحد ثالث ورادع قابل للتصديق، كما شكَّلت مركزاً نوويا مستقلاً من مراكز صنع القرارات تمارس من خلاله تأثيراً على توازن القوة النووية الحالية والمستقبلية.
وفي جميع الأحوال فإن المذهب العسكري للدولة هو الذي يحدد طبيعة العمل الإستراتيجي وهو يعني مجموعة من التعاليم النظرية والعملية التي تجسد السياسية العسكرية للدولة وتعبر عن وجهات النظر الرسمية والقواعد الأساسية للصراع المسلح وكل ما له علاقة بفن الحرب.
والمذهب العسكري الأمريكي لا يخرج عن مقتضيات الإستراتيجية العسكرية ومتطلباتها، حيث تمت صياغة هذه الإستراتيجية تكيُّفاً مع البيئة الأمنية وما طرأ عليها من تغيُّر بعد الحرب الباردة تحسباً لما تنطوي عليه هذه البيئة من مهددات أمنية جديدة لم تعد إستراتيجية الردع في شقها التقليدي كافية لمواجهتها.
ومنذ نهاية الحرب الباردة والولايات المتحدة الأمريكية تستخدم تعابير مبهمة مثل الرد المناسب والرد المدمر في حالة تعرض مصالحها للتهديد الأمر الذي دفعها إلى تطوير إستراتيجيتها العسكرية في إطار مذهبها العسكري، متبنيةً إستراتيجية الفعل الوقائي أو الضربة الوقائية أو الاستباقية، وقد تبلورت هذه الإستراتيجية من خلال غزو أفغانستان وغزو العراق.
ومهما تطورت مفاهيم الردع وتعددت أهدافه فإن نظرية الردع تتكون من عدة أنواع هي الردع بالعقاب والردع بالحرمان والردع بالاطمئنان والردع بالإغراء، ولا بد أن تتوفر فيه مجموعة من الشروط وهي القدرات والمصداقية والعقلانية والمعلوماتية.
والقوة النووية الضاربة الموثوق بها هي أول عنصر من عناصر الردع والعنصر الثاني يتمثَّل في وجود إرادة سياسية معلنة، تعلم علم اليقين أن مفهوم الردع يتضمن التصدي لثلاثة أنواع من التهديدات الكبرى المتمثِّلة في الهجوم النووي المضاد والعدوان التقليدي والعدوان باستخدام أنواع أخرى من أسلحة الدمار الشامل.
وإذا كان الأمر يستدعي ما قرع بابه وجذب أهدابه فإن المملكة بأمس الحاجة إلى رادع نووي يحفظ لها أمنها ويحمي مقدساتها ويردع عنها الأعداء الذين يتربصون بها الدوائر ولديهم أسلحة نووية، فالدولة العبرية لديها سلاح نووي وعداوتها أزلية أبدية وذات أهداف توسعية وأطماع جيوسياسية لا يحدها حدود ولا يقيدها قيود حتى لو تطلب الموقف الذهاب بعيداً في استخدام القوة التي تدمر البنية التحتية وتغيّر التركيبة السكانية في سبيل الوصول إلى دولة اليهود المزعومة.
وعلى الجانب الشرقي من الخليج العربي يوجد النظام الإيراني الذي يتولى المساهمة في شد أطراف المنطقة العربية طيلة العقود الماضية لصالح الكيان الصهيوني، وهذا النظام أصبح قاب قوسين أو أدنى من إنتاج سلاح نووي وهو صاحب مشروع قومي توسعي وتتضح نواياه الغادرة وعداوته السافرة في مذهبيته وتصدير ثورته وبرغماتية وممارسته العدوانية في عدد من الدول العربية.
واتفاقية الدفاع الإستراتيجي المشترك بين المملكة وباكستان تعد نقلة نوعية ومرحلة استثنائية في سجل العلاقات التاريخية بين البلدين كما يُنظر إليها بأنها خطوة ذات مصداقية في جانبها الردعي لكونها تدخل في إطار الردع الموسع الذي يسمح لأحد الأطراف بالدخول في حماية الطرف الآخر والبقاء تحت مظلته النووية ريثما يلحق بالركب النووي بجهوده الذاتية وقدراته الوطنية.
وبحكم موقع المملكة الجغرافي ومركزها الديني ووزنها السياسي وثقلها الاقتصادي ودورها القيادي وانتماءاتها الدينية والقومية ومسؤولياتها الوطنية والإقليمية وتطلعاتها المستقبلية فإن هذه المزايا تتطلب منها دعم الأمن والاستقرار في المنطقة ومواجهة الإرهاب والتنظيمات المتطرفة وأصحاب المشاريع المنحرفة، ودولة هذا حالها لا مناص أمامها من امتلاك قوة الردع التي تمكِّنها من تأدية رسالتها الوطنية والنهوض بمسؤوليتها الإقليمية والدولية عن طريق اتباع سياسة الردع المحسوب وتجنب الفتن والحروب.