رمضان جريدي العنزي
بلادنا اليوم تتسابق نحو الفضاء، والذكاء الاصطناعي، والطاقة النظيفة، والطب الجيني، وبناء الاقتصادات العظمى، وبناء حواسيب ذكية، واختراق أسرار الجينوم البشري، وتطوير طاقة اندماج نووي نظيفة، وحكومة إلكترونية مغايرة ذات تميز راق، واختراعات وابتكارات وصناعات جديدة أخرى، وبالرغم من ذلك لا يزال هناك الكثير من الناس يسرد حكايا، ويروي روايات، ويقصد قصائد، ويتغنى لأمجاد زائفة لم تصنع للأمة سوى الاقتتال والدم والشتات والفقر والسقم والجوع والفقر والظمأ، والاحتراب على قطعة أرض، أو مورد ماء، شاة هزيلة، أو ناقة عجفاء، أو بغلة مريضة، ويحيي عنصرية نتنة مقيتة وبغيضة، يلوكها بفيه وينشدها بلسانه في كل وقت وحين، ومجلس وحفلة ومنبر، ويرفع شعارات فارغة تمزق ولا توحد، تشتت ولا تلم، تهدم ولا تبني، هذه الحكايا ليس بينها مدرسة شيدت، ولا مستشفى بني، ولا جامعة، ولا دور علم وعبادة، ولا مراكز بحوث ومختبرات واختراعات، ولا مصانع ومعامل، ولا طرق عبدت، ولا بنية تحتية عملت، سوى الفقر والفاقة والمرض وتجميد العقول، وتعميق الظلام، وتحطيم الهمم.
العالم اليوم لا يسألك: من أنت؟ بل يسألك: ماذا فعلت؟ وماذا أنت فاعل؟ وما الذي تضيفه إلى رصيد البشرية؟ المجد ليس ميراثًا يُورث كالأرض أو العقار والمال، المجد مسؤولية وعمل وإثبات ذات، إن الأمم العظيمة لا تعيش على الماضي، ولا تقتات على سرديته، بل تبني حاضرًا يليق بذلك الماضي، وتُعدّ مستقبلاً يفخَر به الأحفاد.
السؤال المُرّ: متى يتوقف البعض عن الافتخار بجدٍّ، ويبدأ بالعمل ليكون هو الجد الذي يُفتخَر به؟ فإما أن تكتب أنت الفصل التالي من كتاب المجد، أو تبقى مجرد نقطة صغيرة عليها غبش لا ترى في كتاب كتبه غيرك، والخيار لا يزال بيديك لا بلسانك وفيك، إن بلادنا التي تنهض اليوم كالمارد، تعيد تاريخها بعين ثاقبة، وتميز بين الإرث الذي يجب تجاوزه، والعبور إلى الحاضر بكل تحدياته، فالتاريخ ليس نصاً مقدساً، بل تجربة إنسانية مليئة بالأخطاء والدروس، ومن لا يتعلم من تاريخ الأمس، سيكرر مآسيه في الغد، ما نحتاجه اليوم ليس مزيداً من القصص والحكايا والأناشيد والشيلات لماضي تليد يؤطر للفرقة والتباغض والانقسام ومشاريع الشتات والعدم، بل بأعمال خالدة وعلم وعمل بدلاَ من العصبية، والانتماءات المناطقية والفئوية، أن الخروج من الدوائر الضيقة، ودهاليز الظلمة والظلام، والكهانة والخرافة، يعني الخروج من الوهم للوعي، ومن الحلم إلى الواقع.
المؤلم أن كثيراَ من البعض الذين يرددون تلك الروايات والحكايات كنصوص مقدسة، يفعلون ذلك بثقة عمياء، وكأنهم لا يرون الدمار والرمادية وأشباح الخراب التي خلفتها تلك الأفكار عبر العقود البالية، إن المشكلة ليست في الحكايات نفسها، بل في طريقة التعامل معها، فبدل أن تكون مصدراَ للعظة والعبرة، تحولت إلى فكر يستخدم لغرض غايات ضيقة، وهذا هو الخلل الحقيقي، أنهم يبحثون عن عزاء للماضي، بدلا من أن يصنعوا معناَ جميلا للحاضر. النهضة لن تأتي من قصص تغذي العصبية، ولا من من قصائد تغني في الفراغ، النهضة تبدأ عندما يتساءل هؤلاء المكتنزون بالماضي بجرأة: ما الذي صنعه هذا الارث للحياة الأولى؟ ولماذا يتمسكون بحكايات وروايات لا تبني وطناَ، ولم تحي أرضاَ، ولم تزرع قمحاَ، ولم تصنع دواءاً، ولم ترقى بحياة؟ لقد آن الأوان أن يتحرر هؤلاء من أسر الماضي، وأن يعيشوا وعياَ جديداَ لا يقوم على سردية الماضي الرمادية والتغني بها قصيدة وشيلة، بل على الإنسانية والمسؤولية، أن الأوطان لا تنهض بالقصص الغابرة، بل بالعقول الحاضرة، أن بعض الحكايات المزيفة، والروايات المنتفخة، والبطولات المصطنعة، والأمجاد الورقية، والتي يتغنى بها البعض وكأنها مفاتيح الخلاص، لا تسمن ولا تغني من جوع، بل هي فيروس يعرقل التقدم، ويدمر النمو، ويثبط العزائم، ويقضي على الهمم، لقد حان الوقت لوقف هذا النشاز من الروايات، وصنع روايات جديدة لا تمجد الوهم والماضي التليد، وتحيي عنصرية سوداء بغيضة، بل تمجد الإنسان، وتبني وطناَ يليق بنا ونليق به.
إن الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود- طيب الله ثراه، هو الذي صنع المجد الحقيقي، الذي حرث الأرض، وأنتج الزرع، ووحد الحد، وعلم الأمة، وجمع الكلمة، ووحد الصف، ورفع الراية عالية، وأنشأ وبنى، وحول الشتات إلى وحدة، والصحراء إلى دولة مزدهرة، وبنى وطناً عظيماً لا يضاهيه وطن، بصدق وعزيمة وقوة إيمان وفكر نير.
هذا هو فخرنا الحقيقي وعزنا ومجدنا، الذي حفر اسمه في ذاكرة التاريخ، وبقى أثره منارة وعنواناً ودرساً، لم الشمل، وغرس في الأرض الأمان، وفي القلوب انتماء، حتى صار في التاريخ سطراً لا يُمحى، وبقى اسمه صفحة مضيئة، تتوهج كلما رفعت الراية، وتُروى كلما ذُكر العز والمجد والشموخ والنماء والرخاء والأمان، صنع من الحلم دولة، ومن الدولة مجدا عظيماَ لا يدانيه مجد، إن علينا جميعاَ أن نحافظ على هذا الوطن العظيم، وأن نعض عليه بالنواجذ نحرص عليه ولا نفرط به، وأن نجعل حبه ممارسة يومية، لا مجرد علاقة عابرة، عندما أقول هذا فأنا لا أطلق شعاراَ براقاَ، بل تعبير عن مبدأ عميق يفهمه كل من تذوق معنى الولاء والانتماء الصادق والوعي والالتزام، حفاظاَ على كرامته ومستقبله وكيانه ووجوده.