زياد الجارد
دار بيني وبين أحد الأصدقاء نقاش حول جودة الخدمات الاستشارية في السوق المحلي، والسبب وراء لجوء بعض الجهات والشركات إلى المكاتب الأجنبية، رُغم وجود كفاءات محلية مميزة.
ذكرتُ له أن المشكلة لا تتعلق بجنسية المستشار بقدر ما ترتبط بوفرة البيانات التي يعتمد عليها في عمله؛ فبعض المستشارين المحليين يجدون صعوبة في الوصول إلى قواعد بيانات موثوقة ومنظمة تساعدهم على بناء دراسات وتحليلات دقيقة، بينما يمتلك نظراؤهم في الخارج أدوات وصول أوسع وتحليلات متعددة.
ومع ذلك، فإن وفرة البيانات لا تعني بالضرورة جودة التحليل أو صواب التوصيات، إذ قد تنجح منهجية معينة في بيئة مختلفة تمامًا، لكنها لا تنسجم مع طبيعة السوق المحلي وخصوصيته الثقافية والتنظيمية.
ومن هنا تطرّق الحديث إلى المركز السعودي للأعمال، باعتباره الجهة التي يُعوَّل عليها اليوم لتكون من أغنى المؤسسات بالبيانات الواقعية حول الشركات في المملكة، من التأسيس إلى التصفية، مروراً بالخلافات والتحديات التنظيمية.
وبحكم ارتباط المركز المؤسسي بوزارة التجارة، فهو يمتلك كنزًا من المعلومات التي يمكن أن تتحول إلى ثروة معرفية وطنية لو أُحسِن توجيهها والاستفادة منها، بحيث لا تقتصر مهمته على تقديم الخدمات فحسب، بل تمتد إلى تحليل البيانات واستنباط الحلول الاستباقية التي تدعم بيئة الأعمال والمستشارين المحليين معًا.
تأسس المركز بفكرة ممتازة ومهمة: توحيد الخِدمات الحكومية في نافذة واحدة لتسهيل رحلة المستثمر، وكانت الرؤية واضحة: أن يتوقف المستثمر عن التنقل بين الجهات، وأن يجد كُل ما يحتاجه في مكانٍ واحد.
هذه الفكرة بحد ذاتها نقلة نوعية في بيئة الأعمال، ومن الطبيعي أن يُستقبل المركز بحماس، وأن يكون سقف التوقعات مرتفعًا.
ورغم الإنجاز التنظيمي الكبير في جمع الخدمات بمكان واحد، فإنه من الطبيعي أن تظهر في البدايات بعض التحديات التي تكشف فرص التطوير، حيث إن التجربة الميدانية ما زالت تواجه بعض التحديات التي تستحق المعالجة لضمان تجربة أكثر سلاسة للمستثمر.
الأهم من ذلك أن المركز ووزارة التجارة يملكان اليوم ثروة ضخمة من البيانات والممارسات الواقعية: آلاف الحالات من تأسيس الشركات، والخلافات، وقضايا الحوكمة، وتصفية المنشآت، والتحديات التنظيمية والتشغيلية.
هذه البيانات تمثل فرصة لتأسيس قاعدة معرفية وطنية تقود تطوير بيئة الأعمال، متى ما جرى تفعيلها وتوظيفها بالشكل الأمثل.
وسيكون من المفيد أن يُفعِّل المركز دوره المعرفي عبر إصدار تقارير سنوية تستعرض أبرز أنماط تأسيس الشركات، ومسببات التعثر، والخلافات الشائعة بين الشركاء، والتحديات التنظيمية المتكررة.
فمثل هذه التقارير تصنع مرجعًا وطنيًا يساعد على رفع جودة القرارات والتشريعات وتصميم الحلول الوقائية. ومن خلال هذا التوجه، يمكن للمركز أن يتحول من واجهة رقمية خدمية إلى مؤسسة استباقية تُسهم في رفع نُضج السوق ودعم الاستدامة الاقتصادية.
وأتمنى أن يُدار المركز بعقلية تطويرية واستشارية أكثر من عقلية تنفيذية، ليصبح عقلًا اقتصاديًا وبيت خبرة وطنية لتحليل واقع السوق والمساعدة على تقديم الحلول.
حينها سيغدو المركز رمزًا للتكامل الحكومي ومصدرًا للمعرفة الاقتصادية، ويسهم فعليًا في تطوير بيئة الأعمال وصناعة القرار وتصميم المستقبل الاقتصادي للسعودية.