غسان برنجي
في العلاقات بين الدول، هناك زيارات تُسجَّل في دفاتر البروتوكول، وهناك زيارات تُكتب في دفاتر التحوّلات الكبرى. وزيارة ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان إلى الولايات المتحدة تنتمي إلى الفئة الثانية بلا تردد؛ لأنها ليست حدثًا سياسيًا عابرًا، بل محطة تعيد ضبط إيقاع تحالف امتد لأكثر من ثمانية عقود، وتضعه على سكّة جديدة تتجاوز النفط والسلاح، نحو البيانات، والذكاء الاصطناعي، والاقتصاد المعرفي، وصناعة المستقبل.
ولفهم عمق هذه الزيارة، لا بد من العودة إلى الصورة التي شكّلت بداية الطريق. ففي 14 فبراير 1945، وتحديدًا على متن البارجة الأمريكية «كوينسي»، التقى الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود بالرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت في لحظة شكّلت نواة التحالف السعودي– الأمريكي.
كان العالم ينهض من رماد الحرب العالمية الثانية، وكانت المنطقة مقبلة على مرحلة صاخبة من التغيرات، لكن اللقاء كان أكبر من ظرفه الزمني؛ لأنه وضع الأساس لتحالف قائم على الاحترام والمصالح المشتركة، وقراءة دقيقة لمستقبل القوى.
ثم تعاقب الملوك، وتعاقب الرؤساء، وبقي الخيط الواصل ثابتًا. الملك سعود أدار العلاقات في حقبة التوسع الأمريكي في الشرق الأوسط. والملك فيصل وضعها في إطار من الاتزان الاستراتيجي خلال فترة التوترات العالمية. والملك خالد حافظ على توازن المصالح في سنوات الحرب الباردة. والملك فهد بن عبدالعزيز رسّخ التعاون الأمني والعسكري في واحدة من أكثر فترات المنطقة حساسية. ثم جاء الملك عبدالله بن عبدالعزيز ليمنح العلاقة بعدها الإنساني والاقتصادي الأوسع، ويحوّلها إلى شراكة تتجاوز السياسة إلى مبادرات التعليم والابتعاث والطاقة. واليوم، في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز – حفظه الله – تتجدد العلاقة تحت قيادة ولي العهد برؤية مختلفة: رؤية لا تكتفي بالتحالف التقليدي، بل تعيد تشكيله من جديد ليواكب القرن الحادي والعشرين.
وهنا تحديدًا تقف زيارة ولي العهد إلى الولايات المتحدة باعتبارها نقطة تحوّل. فهي تأتي في مرحلة عالمية مضطربة، تتمدد فيها المنافسات الجيوسياسية، وتتصاعد فيها سباقات التقنية والذكاء الاصطناعي، ويُعاد فيها رسم خرائط النفوذ الاقتصادي. وفي مثل هذه اللحظات، تصبح لغة «القوة الهادئة» هي الأكثر فاعلية: دبلوماسية تعتمد على وضوح الهدف، وحسن إدارة المصالح، والقدرة على خلق مسارات تعاون لا يمكن تجاهلها.
منذ لحظة وصول ولي العهد إلى واشنطن، كان مشهد الاستقبال الرسمي يعكس طبيعة الحدث. فقد استُقبل سموه بالخيالة والمدفعية والموسيقى العسكرية وفق ما ورد في التقرير الرسمي للزيارة، في إشارة واضحة إلى أن الولايات المتحدة لا تنظر إلى الرياض كشريك عادي، بل كقوة إقليمية لها ثقلها في تشكيل السياسات العالمية. وتوالت بعدها اللقاءات الرسمية رفيعة المستوى، وعلى رأسها اجتماع الرئيس الأمريكي، الذي وصف التحالف بين البلدين بأنه يمتد لأكثر من 80 عامًا، وأنه يدخل اليوم مرحلة جديدة أكثر عمقًا وتأثيرًا.
هذه المرحلة الجديدة لا تقوم على النفط كمحور مركزي كما كان في السابق. فالسعودية تغيّرت، والولايات المتحدة تغيّرت، والعالم كله تغيّر.
التحالف اليوم يُعاد بناؤه على ثلاثة محاور رئيسية: التقنية، والاقتصاد الجديد، والأمن الإقليمي المتوازن.
المحور الأول هو التقنية. فالتحول الرقمي السعودي لم يعد مجرد مشروع تحديث، بل أصبح قاعدة استراتيجية لبناء اقتصاد متنوع ومستدام كما تنصّ عليه رؤية 2030. والسعودية اليوم تتقدم في مجالات الذكاء الاصطناعي والتقنيات الناشئة بمعدل أسرع من كثير من الدول الكبرى، وهي تستثمر مليارات الريالات في البنى الرقمية، ومراكز البيانات، والحوسبة السحابية، والتقنيات المتقدمة. ومن الطبيعي أن تبحث الولايات المتحدة عن شريك في هذه المساحة؛ لأن موازين القوى المقبلة لن تُصنع في حقول النفط بقدر ما ستُصنع في مختبرات التقنية. ومن هنا برزت الملفات المشتركة بين الجانبين حول الاقتصاد الرقمي، وشراكات البيانات، وتطوير نماذج الذكاء الاصطناعي، وتوطين الصناعات التقنية، وهو ما أشار إليه تقرير الزيارة في عدة أجزاء.
أما المحور الثاني فهو الاقتصاد الجديد. فالسعودية، من خلال رؤيتها، لم تعد تحصر مكانتها في كونها أكبر منتج للطاقة، بل تتحول بسرعة إلى لاعب اقتصادي عالمي متكامل. المدن الذكية، المشاريع الضخمة مثل نيوم، الاقتصاد الأخضر، السياحة المتقدمة، الخدمات اللوجستية، الصناعة الدفاعية، الطاقة النظيفة.. كلها مسارات تجعل من المملكة قوة اقتصادية لا تعتمد على مصدر واحد، بل على منظومة واسعة من القطاعات المستقبلية. ولهذا جاءت المحادثات في واشنطن لتفتح الأبواب أمام استثمارات ضخمة، وتعاون في سلاسل الإمداد، وتقنيات الطاقة المتجددة، والصناعات المستقبلية. إنها مرحلة جديدة تقوم على تبادل المصالح، لا على علاقة أحادية الاتجاه.
أما المحور الثالث فهو الأمن الإقليمي. فلا يمكن فصل الزيارة عن المشهد الجيوسياسي الراهن؛ لأن السعودية اليوم هي القوة الأكثر تأثيرًا في استقرار المنطقة. وقد أصبحت المملكة تمارس دبلوماسية تعتمد على التهدئة الاستراتيجية، لا التصعيد؛ وعلى بناء التحالفات، لا خوض الصراعات؛ وعلى إيجاد التوازنات، لا الانحيازات الحادة. وهذا التوجه السعودي الجديد يجعلها شريكًا لا يمكن تجاوزه في أي صياغة لأمن الشرق الأوسط. ووفقًا للتقرير الرسمي للزيارة، فإن الحوار الأمني كان جزءًا أصيلًا من لقاءات ولي العهد في واشنطن. ليس بوصفه ملفًا تقليديًا، بل باعتباره عنصرًا مكملًا لمعادلة التنمية والتحول الاقتصادي.
واشنطن بدورها أدركت أن السعودية الجديدة لم تعد تنتظر العالم؛ بل أصبحت تشارك في صياغته. وهنا تأتي أهمية «دبلوماسية القوة الهادئة» التي يقودها ولي العهد. قوة لا ترفع صوتها، لكنها تُغيّر الواقع. لا تعتمد على الضغط، بل على التأثير. لا تتحدث كثيراً، لكنها تفعل كثيرًا.
وفي قلب هذه الدبلوماسية، تقف رؤية 2030 بوصفها الإطار الاستراتيجي الذي تنطلق منه كل خطوة. فالرؤية لم تكن مجرد خطة إصلاح، بل مشروع إعادة تشكيل شامل: اقتصادًا، ومجتمعًا، وثقافة، ومؤسسات، وتوجّهًا عالميًا. والولايات المتحدة تدرك أن السعودية بهذا الزخم ليست مجرد دولة تبحث عن شريك، بل دولة تصنع نموذجًا جديدًا في الشرق الأوسط. نموذجًا قائمًا على سيادة القرار، وتنويع المصالح، والانفتاح المتوازن، والتحول نحو الاقتصاد الرقمي، ورفع جودة الحياة، واستثمار القوة الشبابية الهائلة.
ولهذا، فإن زيارة ولي العهد إلى الولايات المتحدة كانت مختلفة عن كل الزيارات السابقة في التاريخ السعودي–الأمريكي. لم تكن زيارة للمطالبة، بل للمشاركة. لم تكن زيارة لتأكيد التحالف، بل لتحديثه. لم تكن زيارة للتعريف بالسعودية، بل لتقديم نسخة جديدة منها: نسخة طموحة، حديثة، جريئة، متحركة نحو المستقبل دون توقف.
ومع وجود قادة بمستوى ولي العهد، يصبح من السهل فهم لماذا تتغير موازين القوى في المنطقة لصالح الرياض. فسموه يجمع بين رؤيتين: رؤية الحاضر التي تُدار بالمنطق الاقتصادي، ورؤية المستقبل التي تُبنى بالتقنية والتحول الرقمي، ويتعزز كل ذلك بدبلوماسية هادئة لكنّها ثابتة ومؤثرة.
إن الولايات المتحدة تحتاج اليوم إلى السعودية بقدر ما تحتاج السعودية إلى الولايات المتحدة. فالأولى تبحث عن شريك مستقر في منطقة مضطربة، والثانية تبحث عن شريك تقني واقتصادي يعزز قدرتها على بناء اقتصاد ما بعد النفط. وبينهما تُصنع مرحلة جديدة من التحالفات التي لا تقوم على النفط، بل على البيانات، والذكاء الاصطناعي، والتكامل الاقتصادي.
وهنا تظهر أهمية الملفات التي نوقشت في الزيارة: مراكز البيانات، الأمن السيبراني، الاستثمارات المشتركة، الطاقة النظيفة، الذكاء الاصطناعي، سلاسل الإمداد، الاقتصاد الأخضر.. كلها ملفات تعكس كيف أصبح التحالف الجديد أكثر شمولًا وتنوعًا وعمقًا من أي وقت مضى.
وفي النهاية، يمكن القول إن زيارة ولي العهد إلى الولايات المتحدة لم تكن حدثًا سياسيًا فقط؛ بل كانت إعلانًا عن ولادة مرحلة جديدة من التحالف السعودي–الأمريكي. مرحلة تُبنى على المصالح المتبادلة، لا الاعتماد الأحادي. على الاقتصاد الجديد، لا النفط التقليدي. على التقنية، لا الموارد. على المستقبل، لا الماضي.
إنها زيارة تؤكد أن السعودية اليوم ليست مجرد دولة تتفاعل مع العالم… بل دولة تصنع شكل العالم المقبل.