محمد عبدالحميد السطم
لم تكن المنحة النفطية السعودية لسوريا، البالغة 1.65 مليون برميل، مجرد دعم تقني لقطاع يئنّ تحت وطأة الانهيار، بل بدت كأنها إعلان غير مباشر عن تحوّل في طبيعة اللحظة الإقليمية نفسها. ففي الوقت الذي لا تزال فيه دمشق تعيد تعريف دورها بعد سقوط النظام السابق، اختارت الرياض أن تتدخّل في واحد من أكثر ملفات البلاد حساسية: الطاقة. والتي تعتبر واحدة من أعقد أزمات سوريا البنوية وهذا التدخل لم يأتِ كرد فعل على أزمة وقود فحسب، بل كرسالة سياسية صريحة بأن مستقبل العلاقة بين البلدين يُعاد تشكيله على أسس جديدة نحو شراكة عملية، واقعية، تمس أكثر الملفات إلحاحا في الداخل السوري.
يواجه قطاع الطاقة في سوريا تراكمًا من المشكلات البنيوية التي جعلت البلاد تعيش على هامش القدرة الإنتاجية فخروج معظم الحقول النفطية والغازية عن الخدمة، وتراجع كفاءة المصافي ومحطات التوليد، والاعتماد على واردات محدودة عبر قنوات مكلفة، كلها عوامل صنعت فجوة واسعة بين ما تحتاجه سوريا فعليًا وما يصل من إمدادات.
في هذا السياق المُثقل، تبرز المنحة النفطية السعودية كإحدى الخطوات القليلة القادرة على أحداث أثر ملموس لا على مستوى الطاقة فحسب، بل على المشهد الاقتصادي العام. فهذه الكمية الضخمة تسهم مباشرة في تقليص فجوة العرض والطلب على الوقود، عبر توفير إمدادات مستقرة تُعيد للدولة جزءًا من قدرتها على إدارة قطاع الطاقة بحدّه الأدنى المطلوب. كما أن وصول هذه الكميات من دون تكاليف مالية يخفّف تلقائيًا من الضغط على العملة المحلية، إذ يقلل حاجـة الحكومة لشراء الوقود من الأسواق الخارجية بالعملة الأجنبية.
وعلى مستوى الحياة اليومية، فإن هذه المنحة قد تُحدث فرقًا مباشرًا في ساعات التغذية الكهربائية، وفي تشغيل المرافق الحيوية، وفي دعم استمرار بعض خطوط الإنتاج الصناعي التي تعطلت نتيجة نقص الوقود، وبذلك، تصبح المنحة السعودية ليس مجرد دعم طارئ، بل خطوة تُسهم في تعزيز الاستقرار الداخلي وتهيئة بيئة أكثر تماسكًا لمسار التعافي الاقتصادي الذي تحتاجه سوريا على المدى القريب.
تمثل المنحة النفطية أكثر من مجرد دعم اقتصادي عاجل فهي إشارة واضحة على إعادة ضبط العلاقة بين دمشق والرياض في ضوء المرحلة الجديدة التي أعقبت سقوط النظام السابق. فاختيار السعودية التدخل عبر قطاع الطاقة، يعكس فهمًا استراتيجيًا دقيقًا بأن أي استقرار سياسي أو اقتصادي في سوريا مرتبط بشكل وثيق بقدرتها على إدارة قطاع حيوي يؤثر مباشرة على الحياة اليومية للمواطنين وعلى استقرار الدولة ككل.
من زاوية أخرى، تُظهر هذه الخطوة أن الرياض تتعامل مع سوريا الجديدة بوصفها شريكًا عمليًا قادرًا على تحويل الدعم إلى نتائج ملموسة، لا مجرد مستفيد من المساعدات.
وعلى المستوى الإقليمي، تأتي الخطوة ضمن إطار السياسة السعودية الرامية إلى تعزيز الاستقرار عبر التنمية والتعاون العملي، كما تحمل المنحة رسالة واضحة بأن السعودية ترى في الإدارة السورية الجديدة شريكًا ممكنًا لبناء علاقات عملية قائمة على المصالح المشتركة، وفي المقابل، تمنح هذه الخطوة دمشق فرصة لإثبات قدرتها على استثمار الدعم في تعزيز الخدمات الأساسية وإعادة بناء الثقة الداخلية والخارجية، بما يضع أسسًا أكثر متانة للتعاون العربي– السوري المستقبلي.
خاتمة: يمكن القول أن المنحة النفطية السعودية بداية اختبار لقدرة العلاقات العربية–السورية على التحول من الدعم إلى شراكة استراتيجية. كما أن نجاح دمشق في استثمار هذا الدعم يعكس إمكانيتها على إدارة أزمات الداخل وتحويلها إلى أدوات لبناء الثقة، بينما تشير خطوة الرياض إلى أن الاستقرار الإقليمي أصبح أكثر من مجرد رغبة سياسية؛ إنه استثمار عملي في دولة قوية وفاعلة في محيطها. وإذا ما سارت الأمور وفق هذا المسار، فقد نشهد نموذجًا لكيفية إعادة صياغة العلاقات العربية مع سوريا عبر خطوات عملية ومرنة تعكس واقع القوة والحاجة والمصالح المشتركة، بعيدًا عن المبادرات الرمزية.