د.عبدالعزيز النخيلان
يستمر مستشفى حائل العام في الاحتفاظ بمكانته العاطفية لدى أهالي المنطقة، ليس فقط لكونه أول مستشفى حكومي في حائل منذ أكثر من سبعين عامًا، بل لأنه كان أول نافذة للطب الحديث في المنطقة، وبوابةً دخل منها جيل كامل إلى مفهوم الرعاية الصحية المنظمة. مساحة جمعت لحظات الحياة بكل تناقضاتها، ذلك المبنى العتيق لم يكن مجرد حيطان، شهد ولادات، شُفيت فيه الأرواح، وفُقد فيه أحبة، واحتضن آلاماً ووداعات، بل كان كأنه جَدٌّ كبير في ذاكرة المدينة.. شاخ، وهرم، لكنه بقي حاضرًا في وجدان الأهالي.
كان شاهدًا إنسانيًا على تحولات مجتمع كامل. ولهذا ظل يُعرَف بين الناس بـ»المستشفى القديم»، ليس بوصفٍ هندسي، بل كصفة تاريخية لازمته طيلة هذه العقود.
أواصل في ذاكرتي تفاصيل تلك المرحلة حين تشرفت بإدارة المستشفى لمدة خمس سنوات، نعمل خلالها على رفع مستوى الخدمة قدر الإمكان رغم تقادم البنية التحتية. تتحرك الفرق الطبية كل يوم في ممرات ضيقة وأقسام قديمة، ونحاول بتدخلات هندسية متتابعة وأعمال صيانة مستمرة الحفاظ على فاعلية المكان، إلا أن المبنى كان يشيخ بسرعة تفوق قدرة الترميم، وكأن الزمن يذكّرنا بأن الإصلاح الجزئي لم يعد كافيًا. استقبل في تلك الفترة معالي وزير الصحة آنذاك الدكتور حمد المانع ضمن زيارته الرسمية لمنطقة حائل. أرافق معاليه في جولة داخل المستشفى لأعرض الواقع كما هو، دون تزيين أو تلطيف، بروح شابة جريئة تُفضِّل مواجهة الحقيقة على إخفائها. يرى معاليه تَقادُم الأنظمة وضعف البنية التحتية، ويرى ما كنا نراه يوميًا أن المستشفى أدى دوره التاريخي، وأن المنطقة تستحق بناءً جديدًا يُلائم احتياجاتها الصحية الحديثة.
ينتقل النقاش حينها من منطق «الإحلال» إلى منطق «البناء الموازي» رغم أن مستشفى حائل التخصصي كان تحت الإنشاء بصفته بديلاً رسميًا. تتكوّن فكرة مستشفى حائل العام الجديد في تلك اللحظة بوصفه مشروعًا منفصلاً لا يكرّر الماضي، بل يُعيد صياغته بمواصفات طبية وهندسية حديثة، وبسعة تخدم النمو السكاني واحتياجات المستقبل.
تتتابع الجهود لاحقًا من جهات عديدة في المنطقة، وتتكامل أدوار الإدارات المتعاقبة في وزارة الصحة وفي صحة حائل بين تخطيط وتنفيذ ودعم وتحسين مسار المشروع حتى يصل إلى صورته النهائية. وتستمر القيادات الحالية بقيادة صاحب السمو الملكي الأمير عبدالعزيز بن سعد بن عبدالعزيز أمير منطقة حائل، وسمو نائبه صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن فيصل بن مقرن بن عبدالعزيز، في متابعة التنفيذ مع الجهات المعنية حتى تحقق هذا الإنجاز. وتتضافر المساعي والعمل المستمر من مدير عام فرع وزارة الصحة بحائل الأستاذ سلطان المسيعيد، والرئيس التنفيذي للتجمع الصحي بحائل المهندس حاتم الرشدان، ورئيس المجلس التأسيسي للقطاع الصحي الشمالي المهندس عبدالله الرخيص، في دفع المشروع نحو تشغيل فعلي يُترجم رؤية موحدة لخدمة المنطقة.
يزورنا هذه الأيام شهر نوفمبر بخريفه الرصين، لكن أوراقه هذه المرة لا تتساقط.. بل تُبنى من جديد.. لتشهد ولادة مستشفى حائل العام الجديد بهوية مختلفة؛ لا كمبنى بديل عن آخر، بل كمؤسسة صحية متقدمة تعتمد معايير تصميمية حديثة تُراعي انسيابية الحركة، وسلامة المرضى، وتكامل العيادات مع أقسام الطوارئ والتنويم والعمليات، لتقديم خدمة ترتقي لاحتياجات حائل، لا مجرد مبنى واسع يلفت النظر، بل منظومة صحية حديثة تستجيب لحاضر المنطقة ومستقبلها.
أقف اليوم أمام هذا التحول بشعور يمزج الامتنان بالانتماء؛ فحين أتذكر تلك الممرات القديمة التي كنا نمشي فيها مع المرضى وأسرهم، وأرى الآن هذا الصرح يفتح أبوابه بحلّة جديدة، أشعر أن التاريخ لا ينتهي.. بل يتطور معنا. لقد كان المستشفى القديم جزءًا من حياتي المهنية، وكان جزءًا من ذاكرة المدينة، وها هو يفتح صفحة جديدة لا تلغي الماضي بل تبني عليه.
واليوم، حين نرى المبنى الجديد يفتح أبوابه، لا نُودّع أنقاض الماضي، بل نكرّم التاريخ ونفتح فصلًا جديدًا لمستشفى حمل اسم المنطقة قبل أن تحملها المراكز والمشاريع.
المستشفى القديم.. لا يُغلق تاريخه، بل يُخلَّد.