أريج كعكي
اعتمدت الحكومة الدنماركية خلال السنوات الماضية منهجية اقتصادية تقوم على خفض الميزانية العامة بنحو 2.9% تقريباً في عدد من القطاعات الكبرى مثل التعليم العالي وغيرها، بهدف تقليل النفقات وإعادة استثمار الفوائض المالية في مبادرات أكثر إنتاجية ومشاريع ذات قيمة أعلى للاقتصاد. هذا النهج لم يكن مجرد تقليص للإنفاق، بل أجبر الدنماركيين لإعادة توجيه للموارد نحو المجالات القادرة على إحداث أثر ملموس في الاقتصاد. وقد دفع هذا التوجه المؤسسات الأقل إنتاجية إلى مراجعة نموذج عملها، تحسين الكفاءة، وابتكار حلول جديدة بدلًا من الاعتماد المستمر على زيادة الميزانيات. كما ساهم في رفع جودة الأداء داخل القطاعات الحكومية عبر مؤشرات قياس دقيقة، وإدارة تشغيلية أكثر انضباطًا، دون الحاجة إلى ضخّ إنفاق إضافي. وأصبح النموذج الدنماركي أحد أبرز الأمثلة العالمية على فعالية اقتصاد القيمة مقابل المال.
تشير التقارير الحديثة الصادرة عن المنظمات الدولية الكبرى مثل منظمة OECD وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي إلى بروز توجه اقتصادي عالمي جديد هو اقتصاد القيمة مقابل المال (Value for Money Economy). هذا التوجه يقوم على مبدأ واضح: الدول لم تعد تعتمد على زيادة الميزانيات لتحقيق النمو، بل على تعظيم قيمة كل وحدة إنفاق عبر إدارة أكثر كفاءة للموارد وإعادة ترتيب أولويات الصرف لضمان أعلى أثر اقتصادي ممكن. وهو اتجاه باتت تتبناه اليوم أغلب الدول المتقدمة. في السابق، كان النموذج الاقتصادي السائد يعتمد على رفع معدلات النمو من خلال التوسّع في الإنفاق الحكومي، باعتبار أن زيادة الصرف تقود تلقائيًا إلى تنشيط الاقتصاد. أما في النموذج الحديث، فقد تغيّر المسار؛ إذ أصبحت الدول تركز على تحقيق نمو اقتصادي أعلى دون زيادة الإنفاق، عبر تحسين كفاءة التشغيل وتعظيم الإنتاجية باستخدام نفس الموارد المالية المتاحة.
ومع تصاعد التحديات المالية والتشغيلية عالميًا، بات لزامًا على الحكومات والمؤسسات الاقتصادية البحث عن حلول استراتيجية تصنع مخرجات أكبر دون رفع حجم الميزانيات. وهنا يبرز دور اقتصاد القيمة مقابل المال، القائم على مبدأ يبدو بسيطًا لكنه جوهري: زيادة المخرجات والعائد الاقتصادي دون زيادة الصرف. فالغاية لم تعد ضخ المزيد من الأموال، بل تحسين كيفية استخدام الموارد الحالية لتحقيق نتائج ملموسة وقابلة للقياس. ولهذا السبب، أصبح هذا التوجه اليوم أحد أهم محركات رفع كفاءة الإنفاق واستدامة التنمية، وركيزة أساسية في سعي الدول لتعظيم الأثر الاقتصادي والاجتماعي لكل دولار يُنفق.
تقوم أهم ركائز اقتصاد القيمة مقابل المال على رفع الإنتاجية باعتبارها أداة استراتيجية أساسية. ويتحقق ذلك من خلال تحسين العمليات، وتقليل الهدر الإداري، وإعادة تصميم الخدمات لتكون أكثر تأثيرًا على المستفيد النهائي، إضافةً إلى رفع كفاءة استخدام الموارد المادية والبشرية والرقمية داخل الجهة. كما يشكّل التحول الرقمي ركيزة محورية في هذا التوجه، إذ يُسهم الانتقال إلى اقتصاد قائم على البيانات والذكاء الاصطناعي في رفع جودة الخدمات، وأتمتة العمليات الإدارية، وتقليل الوقت والتكلفة، وهو ما يحد بشكل مباشر من الهدر ويُسرّع عملية اتخاذ القرار. ويتكامل هذا مع الاستثمار في رأس المال البشري ورفع كفاءته لضمان قدرة الجهات على التكيف والابتكار.
ولتحقيق إنتاجية أعلى بميزانية ثابتة تحتاج الجهات إلى تبنّي منهج اقتصاد القيمة مقابل المال الذي يقوم على خطوات مترابطة تشمل: أولًا، تشخيصًا واقعيًا لمواطن الهدر في العمليات؛ ثم بناء نموذج تشغيلي محكم يدمج التقنية والبيانات؛ بالإضافة إلى رفع قدرات وحدات التحليل والتخطيط؛ وتطوير مؤشرات أداء تقيس الأثر الحقيقي وليس مجرد الأنشطة؛ وتعزيز ثقافة التحسين المستمر للانتقال من نموذج النمو عبر الإنفاق إلى النمو عبر العائد والمردود الفعلي.
تعيش مملكتنا اليوم مرحلة انتقال اقتصادي نوعية؛ مرحلة تتحول فيها بوصلة النمو من اقتصاد قائم على العوائد المالية المباشرة إلى اقتصاد يولّد قيمة مضافة عالية عبر المعرفة والتقنية والصناعة وسلاسل الإمداد المتقدمة. هذا التحول لا يتعلّق بزيادة الإنفاق فحسب، بل بقدرتنا على تحويل كل ريال يُصرف إلى قيمة اقتصادية مستقبلية قابلة للقياس والاستدامة. على أرض الواقع أصبحت القطاعات غير النفطية هي المحرك الأساسي للنمو مع ارتفاع مساهمتها في الناتج المحلي إلى مستويات تتجاوز 50%. وهذا يعكس انتقال الاقتصاد من الاعتماد على مصدر أحادي للدخل إلى هيكل اقتصادي متعدد المحركات يشمل الصناعات المتقدمة، التحول الرقمي، الطاقة المتجددة، والخدمات ذات القيمة العالية. كما يشهد السوق الصناعي طفرة لافتة: توسّع في التراخيص الصناعية، نمو في التصنيع المحلي، وزيادة في الاستثمارات التحويلية التي تخلق قيمة حقيقية داخل الاقتصاد، وليس فقط حركة مالية عابرة. هذا يتكامل مع دور صندوق الاستثمارات العامة، الذي تحوّل من مجرّد مستثمر مالي إلى مُنشئ قيمة استراتيجية عبر مشاريع ضخمة تستهدف بناء اقتصاد منتج يعتمد على الابتكار والبنية التحتية الذكية. إن السعودية دخلت فعليًا مرحلة بناء اقتصاد القيمة الذي يعتمد على الإنتاج، الابتكار، وجذب الاستثمارات النوعية، مع انتقال واضح من نموذج «المال مقابل التوسع» إلى نموذج «القيمة مقابل كل ريال مُستثمر». النجاح في هذه المرحلة تعززه قدرتنا على استدامة الإيرادات غير النفطية وتعزيز كفاءة المشاريع الكبرى لتتحول إلى محركات نمو حقيقية ومتوازنة وهو ما تسعى إليه مملكتنا.
وفي المرحلة التي يمرّ بها اقتصادنا التي تتجاوز فيها مفهوم الإنفاق التقليدي إلى نموذج قائم على تعظيم القيمة الاقتصادية المتولّدة من كل ريال يُستثمر والذي يعتمد على الإنتاج، الابتكار، وجذب الاستثمارات النوعية وفي هذا السياق، يمكن تقديم مجموعة من المقترحات التي تعزّز كفاءة الإنفاق، وترفع الإنتاجية، تعزز استدامة الإيرادات غير النفطية وتحوّل الاستثمارات الأجنبية وكفاءة المشاريع الكبرى إلى قيمة مضافة طويلة المدى منها:
- ابتكار مؤشر يقيس أداء جميع الجهات (جهات عامة، مشروعات رؤية 2030، وقطاعات استراتيجية) بناءً على «القيمة مقابل المال»: ليس فقط من حيث النفقات، لكن من حيث النتائج، التأثير على المواطن، واستدامة المشاريع.
- تأسيس وحدة مستقلة في المشاريع مهمتها حساب القيمة الاقتصادية والاجتماعية لكل مشروع بعد تنفيذه، وربطه مباشرة بخطة التمويل المستقبلية.
- زيادة تفعيل الشراكات القائمة على الأداء (Performance-Based Partnerships):هذا النوع من الشراكات يعزز كفاءة الإنفاق، لأنه يحوّل العلاقة مع القطاع الخاص من مجرد تقديم خدمات إلى خلق قيمة حقيقية عبر الإنتاج، الجودة، والنتائج. كما أنه يحد من الهدر المالي، ويرفع جودة المخرجات، ويحفّز الابتكار لأن الشريك لن يحصل على كامل مستحقاته إلا وفقًا للأداء الفعلي.