هياء الدكان
هي وسيلة مقيتة لجذب الأنظار أو كسب الإعجاب، لكنها في حقيقتها مجرد قشرة زائلة لا تصمد أمام الوقت ولا المواقف. فالمظهر إن خلا من الجوهر أصبح كطلاءٍ باهتٍ على جدارٍ متآكل أو صدأٍ يخفي هشاشة الحديد، قد يلمع لحظة، لكنه لا يدوم.
وفي العلاقات الإنسانية كذلك، كلما زاد الاهتمام بالمظهر على حساب المضمون، خبا النور، وضعف الصدق، وذبلت الروح، فالناس قد تُفتن بالبريق أول الأمر، لكن القلوب لا تنجذب إلا للنقاء، ولا تستقر إلا عند الصدق والإخلاص.
وما أجمل من يجمع بين المظهر والمخبر ويسأل الله السداد والبركة. وهكذا يوصي الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- بالاهتمام بالنية، فهي الميزان الذي يزن الأعمال ويمنحها معناها الحقيقي، قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُواْ إِلَّا لِيَعبُدُواْ اللَّهَ مُخلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُواْ الصَّلَو وَيُؤتُواْ الزَّكَوةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ} (البينة:5)،
فالإخلاص هو جوهر العمل، والنية هي نوره الذي لا يخبو.
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» (متفق عليه)، فمن عمل طلبًا لمدح الناس أو شهرتهم نال ما أراد في الدنيا وفاته الأجر في الآخرة، كما قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (هود: 15-16).
فاجعل نيتك وجه الله لا الناس، وابذل عملك سرًّا لا مظهرًا، فإن الله وحده يعلم خفايا القلوب ويثيب على ما أخلص فيها.
وما أجمل قول أهل الإخلاص في قوله جل جلاله: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} (الإنسان: 9).
فاجتهد في الأثر الباقي: من كلمة، أو عمل، أو دفع بلاء، أو خيرٍ تقدمه في مناسبة، أو إحسانٍ تؤديه في وظيفتك.
ما كان لله دام، وما كان لغيره زال.. الناس تنسى، لكن كتابك الأبيض يزدهر بعملك، وطيب نيتك، وإحسانك.
فلا تكبر في نفسك، ولا تتباهَ بمظهرك فقط، بل اقتدِ بنبيك -صلى الله عليه وسلم- في تواضعه وتبسمه وإحسانه، إذ كان يزيد المرق لجاره، ويكرم الضعيف، ويسقي العطشان. قال -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي ذر -رضي الله عنه-: «يا أبا ذر، إذا طبختَ مرقةً فأكثِر ماءها وتعاهد جيرانك» (رواه مسلم).
وفي رواية أخرى عنه قال: «إن خليلي صلى الله عليه وسلم أوصاني: إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها، ثم انظر أهل بيتٍ من جيرانك فأصبهم منها بمعروف» (رواه مسلم).
وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تَحقِرنَّ من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طَلْق» (رواه مسلم)، أي بوجه يعلوه الابتسام والترحيب، وكما يقول المثل العامي: «لاقيني ولا تغديني»، أي أن البشاشة والاستقبال أهم من المظهر أو حجم الوليمة.
وازرع أثرك حيث تمر، واهدِ بما تيسر من طعام أو سقيا أو فاكهة أو تمر أو خضار أو شتلات زرع أو حلوى أو أوان أو ثياب أو قطع يحبها أحبابك أو جيرانك أو معارفك من الموهوبين من أدوات رسم أو أدوات عمل يحبونه، الإهداء والإطعام حتى للأغنياء، فإن العطاء لا يقتصر على الفقر، بل هو بركة تعم الجميع.
واجعل عملك لله، وادخل السرور على من تعرف ومن لا تعرف، ومن مر في دربك أو رأيته في طريقك، أو عامل في متجره أو مندوب يوصل لك طلباً، فجهز له ما تيسر حتى لو قارورة ماء أو مشروباً باردا في الصيف أو ساخناً في الشتاء، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملًا، ويضاعف لمن يشاء جعلنا الله وإياك منهم.
قال جل جلاله: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُم خَيرُ البَرِيَّةِ، جَزَاؤُهُم عِندَ رَبِّهِم جَنَّاتُ عَدن تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَد رَّضِيَ اللَّهُ عَنُم وَرَضُواْ عَنهُ ذَلِكَ لِمَن خَشِيَ رَبَّهُ} (سورة البينة: 8).
ولنتأمل قول الشاعر:
ليس الجمالُ بمِلبَسٍ أو منظرٍ
إنَّ الجمالَ جمالُ روحٍ وضميرِ
ومن قال رحمه الله:
وكنْ رجلاً إن أتَوا بعدهُ
يقولون مرَّ وهذا الأثرْ
فكلما أبدعت وانتقيت عملك، كنت في الحقيقة تنتقي أثرك، وما يبقى منك بعد رحيلك هو ما زرعته من أثر نقي خالد. اللهم بارك في أعمالنا وأعمالكم واجعلها خالصةً لوجهك الكريم.