د. عبدالله علي بانخر
لم تعد المنافسة بين عواصم العالم مقتصرة على الناتج الإجمالي أو كثافة البنية التحتية. لقد ظهر مقياس نجاح جديد وأكثر إنسانية، يقوم على ركيزتين متلازمتين: أنسنة المدن بالإضافة الي جودة الحياة والقدرة على احتضان الإبداع واقتصادياته.
هذا التحول الاستراتيجي هو ما تتبناه مدينة الرياض، تحت مظلة رؤية السعودية 2030، حيث تحوّل مشاريعها الكبرى من مجرد تطوير عمراني إلى استثمار في الروح والمكان.
إن العلاقة بين محاور التنمية الأربعة – أنسنة المدن، جودة الحياة، العمران، والاقتصاد الإبداعي – لم تعد علاقة اختيارية، بل هي دورة حياة متكاملة تضمن الاستدامة والرفاهية. هذا المقال يغوص في تحليل كيف تعمل الرياض على دمج هذه المحاور لتنتقل من عاصمة وظيفية إلى منصة عالمية جاذبة للكفاءات.
والتأصيل الفكري: عندما يصبح الإنسان محور العمارة فقد أثبت الرواد، أمثال المعماري الدنماركي يان جيل (Jan Gehl)، أن العمران المؤنسن (Urban Humanization) ليس ترفاً جمالياً، بل قرار اقتصادي يحسن من كفاءة المدينة.
العمران المؤنسن هو المنهج الذي يعيد توجيه بوصلة التخطيط ليضع الإنسان المشاة أولاً، وهو ما يرفع تلقائياً مؤشرات جودة الحياة (QoL)، المقياس الذي وضعته منظمة الصحة العالمية (WHO) كمعيار للرفاهية المجتمعية.
وفي قلب هذه المعادلة يكمن الاقتصاد الإبداعي، الذي صاغه جون هوكينز (John Howkins)، ويعرّفه بأنه القيمة الاقتصادية المولّدة من الأفكار والملكية الفكرية.
العلاقة هنا حتمية: البيئة الحضرية الجاذبة والمريحة هي الشرط الأول لجذب واستبقاء العقول والمواهب والكفاءات العالمية (فلوريدا، 2002)، وهم الوقود الحقيقي لهذا الاقتصاد.
ولم تولد استراتيجية الأنسنة في الرياض من فراغ. بل هي امتداد لجهود تاريخية سابقة، ففي مرحلة النهضة العمرانية (تحت قيادة سمو الأمير د. عبد العزيز بن عياف) برزت مشاريع رائدة مثل مركز الملك عبد العزيز التاريخي كنموذج مبكر لدمج البعد الثقافي وتوفير مساحات عامة حيوية، محققة بذلك الأنسنة كـأعمال عمرانية ملموسة. لكن التحول النوعي، الذي تدعمه رؤية 2030 (تحت قيادة سمو الأمير فيصل بن عبد العزيز بن عياف)، كان في الربط الاستراتيجي المباشر بين الأنسنة وبين مستهدفات «برنامج جودة الحياة».
فقد تحولت الاستراتيجية إلى نهج مزدوج:
* قياس الأثر: لم يعد الهدف هو مجرد بناء حدائق، بل قياس أثر هذه الحدائق على رفع رفاهية السكان وتحسين مؤشرات جودة الحياة بشكل ملموس. ومع مشاريع التكامل العملاقة تحولت الأنسنة إلى مشاريع ضخمة تعمل كأوعية دمج لجميع المحاور.
حديقة الملك سلمان: «أم الفنون» تستثمر في الفكر
يُجسد مشروع حديقة الملك سلمان المفهوم المتكامل للعمران بوصفه «أم الفنون» (بحسب كانودو)، حيث يدمج الأهداف الأربعة للمقالة في مساحة واحدة:
* جودة حياة مثالية: عبر توفير مساحات خضراء شاسعة للاسترخاء والتفاعل الاجتماعي.
* رافعة للإبداع: لا تكتفي الحديقة بكونها متنفساً، بل تضم مجمعاً ملكياً للفنون ومسارح ومتاحف، مما يجعلها منصة لتوليد الأفكار الفنية وتغذية «الاقتصاد البنفسجي» (الاقتصاد الثقافي والترفيهي).
* استثمار في الموهبة: يُعد إنشاء أكاديمية الفنون (ضمن المجمع) استثماراً مباشراً في المستقبل، حيث تعمل على صقل المواهب المحلية، وتُجهز الجيل القادم ليكون وقوداً للاقتصاد الإبداعي.
إن النجاح الاقتصادي في القرن الحادي والعشرين مرهون بالقدرة على جذب العقول المبتكرة. المدينة التي توفر بيئة حضرية آمنة، مريحة، وثرية ثقافياً، هي المدينة القادرة على تنويع اقتصادها.
وتُظهر مشاريع الرياض الكبرى أنها تضع الإنسان كـأثمن الأصول وأعلى عائد استثماري. فكل متر من ممرات المشاة، وكل حديقة، وكل أكاديمية فنية، هي استثمار ذكي ومباشر في رفاهية المواطن والمقيم، مما يُطلق طاقته الابتكارية ليزدهر الاقتصاد الإبداعي.
لقد تجاوزت الرياض مرحلة القياس بارتفاع مبانيها، لترسخ مفهومها الجديد: المدينة الناجحة هي المدينة الإنسانية أولاً.