د.عبدالله بن موسى الطاير
في خطاب المحللين -إذا جاز وصف كل من يعتلي منصة ويحلل المشهد السياسي بأنه محلل- تنفير من أدلجة السياسة. البعض ينادي بها عن قناعة، والآخر مدفوع بتوجيه أو توجه سياسي يعتقد أن الأيديولوجيا في السياسة تفسد المقاصد، وتقصي الشركاء الذين يخالفونها، وأنها معمل متقدم لإنتاج التعصب والتطرف. هذا الخطاب أكثر تفشيا في عام 2025م بسبب حروب التضليل المعززة أو المولدة بالذكاء الاصطناعي؛ لا ليبرالية، ولا محافظة، ولا اشتراكية، ولا قومية، ولا فوضوية، ولا نسوية، ولا فاشستية، ولا حتى تعددية ثقافية، وإنما نزعة استهلاكية تحكمها المصالح، والعلاقات المادية، في عالم رغم ترابطه، فإنه شديد الشتات. أندرو هيود صاحب كتاب مقدمة في الأيديولوجيات السياسية له رأي مخالف، بالنسبة له فإن «مصير السياسة منزوعة الأيديولوجيا أو ذات التوجه الاستهلاكي هو الهلاك، لأنها لا تمنح الناس سببا للإيمان بشيء أكبر من المصلحة الذاتية المادية، ولأن الروايات الشخصية للناس لا يكون لها معنى إلا عند وضعها داخل الروايات التاريخية الأكثر اتساعا».
يصر هيود، في عالم يُفترض أنه يتجاوز الأيديولوجيات الكبرى، حيث يُعلن مفكرو ما بعد الحداثة انتصار البراغماتية، وتمكن التكنوقراط، على أن الأيديولوجيا لا غنى عنها، وأنها لا تنسحب من المشهد، بل تتطور، وهو أمر حيوي يمنح الأمل في المزيد من الاستقرار السياسي بدلا من الهلاك الذي تنبأ به لعالم محكوم بسياسة منزوعة الإيدلوجية. السياسة في أبسط تعريفاتها هي لعبة السلطة، والسياسي مهما كان واقعيا، وغير مؤدلج فإنه يرمي بشرك أيديولوجي قادر على الحشد يصطاد به الناخبين والمؤيدين ويجمعهم للوصول إلى السلطة، ومواجهة التحديات المصيرية. إنه يعدهم بما هو أكبر وأسمى من الاستهلاك والمصالح الفردية المادية حتى يبقي النسيج الضامن للاستقرار والمحافظ على الدعم والتأييد متماسكا. الناس يبحثون عن رواية أعلى وأسمى وغير قابلة للقياس المادي، يتعلقون بها ويمنون أنفسهم تحت مظلتها بغد أفضل. الحديث هنا ليس عن الإيمان الذي تمنحه الأديان لأتباعها، وإنما عن السبب الذي يبقي الناس متماسكين تحت مظلة سياسية واحدة، ويكونون من القوة بحيث يدافعون عن مصالح كيانهم السياسي.
دانيال بيل في ستينيات القرن الماضي كتب عن نهاية الأيديولوجيا، مشيرا إلى أن المجتمعات الحديثة قد تجاوزت الحماس الأيديولوجي، واتجهت نحو حلول تكنوقراطية للمشاكل المشتركة. يمكن الاستشهاد في هذا السياق بأولاف شولتز في ألمانيا الذي أدار أزمات الطاقة ببراغماتية، ومارغريت تاتشر التي غيرت مفاهيم الإدارة العامة في المملكة المتحدة وحول العالم، إلى تركيز اليابان على الاستقرار الاقتصادي وسط التراجع الديموغرافي، وتُضخّم النزعة الاستهلاكية. أصحاب موت الإيديولوجيا يحولون السياسة إلى سوق، حيث يتسوق الناخبون السياسات عبر التطبيقات واستطلاعات الرأي، مُفضّلين التكنولوجيا والنمو على الرؤى الطوباوية. في الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال تحوّلت الحملات الانتخابية إلى التركيز على التضخم والوظائف والتكنولوجيا، متجاهلة التكافل الاجتماعي الذي تراه مكلفا وثقيلا على ميزانية الدولة، بينما تغرق دول مثل فرنسا وبريطانيا في ديون كبرى بسبب تمسكها بخدمات اجتماعية مجانية لمواطنيها. وواضح أن النزعة المادية في السياسة الأمريكية لم تحسن الوضع الاقتصادي العام للدولة فهي تتربع على قمة الدين العالمي.
الأيديولوجيا، بعيدا عن فرضية الانقراض، يلمع نجمها بقوة من خلال الشعبوية والحركات القائمة على الهوية. يؤكد ذلك عودة اليمين المتطرف في أوروبا؛ من الديمقراطيين السويديين إلى أوربان في المجر. الأيديولوجيات القومية تناهض التعددية الثقافية كأيدولوجيا سياسية، ومن الطبيعي أن توظف الإيديولوجيا لتهميش أيدلوجية أخرى، وهذه النزعة واضحة بجلاء هذه الأيام في أمريكا.
على الرغم من علو كعب خطاب موت الإيدلوجيا أو المطالبة بنحرها من أجل مجتمعات أكثر مدنية ومادية، فإن المؤشرات تذهب إلى النقيض، ففي آسيا ترسّخ الصين نظامها السياسي المؤدلج، ويحقق نجاحا منقطع النظير، والقومية الهندوسية تزدهر في الهند بقيادة مودي، وتنتعش الأيديولوجيات اليسارية في البرازيل، بعد العارض المحافظ الذي ألم بها، إذ يُدافع لولا دا سيلفا عن الاشتراكية البيئية، رابطاً حقوق السكان الأصليين بالاستدامة العالمية.
وكما أن الليبرالية الديموقراطية تحولت إلى عقيدة جامعة، فإن النيوليبرالية، التي تُقدّم على أنها محايدة، هي أيديولوجية تمجد الأسواق، وتفاقم الطبقية وعدم المساواة، وتُؤجّج ردود الفعل العنيفة، كما أن الاستهلاك نفسه يعتبر أيديولوجية، إذ يختزل البشر في مستهلكين، ولكنه يُثير أيديولوجيات مناهضة للرأسمالية. في عام 2025، تذكي نقاشات الذكاء الاصطناعي الصراع بين المُتفائلين بما بعد الإنسانية والمُتشككين الرافضين للتكنولوجيا، لتثبت تلك النقاشات أن الصراعات الأيديولوجية تتكيف مع العصر، لكنها لا تموت.