د. محمد بن عبدالله آل عمرو
في سياق بناء الإنسان السعودي وتعزيز ركائز الهوية الوطنية، تحظى اللغة العربية بمكانة محورية في سياسات وزارة التعليم في المملكة العربية السعودية، بوصفها لغة القرآن الكريم، ولسان الثقافة العربية، وأحد أهم عناصر التماسك الاجتماعي والوجداني. وقد انعكس هذا الوعي المؤسسي بوضوح في الخطط الدراسية المعتمدة عبر عقود، حيث خُصصت للغة العربية مساحة أساسية وثابتة في جميع المراحل التعليمية: الابتدائية، والمتوسطة، والثانوية، مع تنوّع فروعها بين القراءة، والنصوص، والنحو، والإملاء، والتعبير، والبلاغة، والأدب، بما يضمن - نظريًا - بناء كفاية لغوية متدرجة ومتكاملة لدى المتعلم.
وأكدت وزارة التعليم في أكثر من وثيقة تربوية أن تعليم اللغة العربية ليس مادة تعليمية عادية، بل ركيزة من ركائز تعزيز الهوية الوطنية، وحفظ القيم العربية والإسلامية، وترسيخ الانتماء الثقافي. كما ارتبطت العناية بالعربية بمستهدفات رؤية المملكة 2030، التي تسعى إلى بناء مواطن واثق بذاته، معتز بلغته وثقافته، وقادر على التواصل الفاعل والإسهام في التنمية الوطنية، والانفتاح على العالم من موقع الندية لا التبعية.
غير أن هذا الاهتمام الرسمي الواضح، سواء في عدد الحصص أو في حضور اللغة العربية في المقررات، يواجه مفارقة مؤلمة حين ننظر إلى واقع المخرجات التعليمية. فالمتابع لمستوى خريجي المرحلة الثانوية، بل وطلاب الجامعات، يلحظ ضعفًا مقلقًا في مهارات اللغة العربية الأساسية: قراءةً، وكتابةً، و تحدثاً شفهيًا. وتشيع الأخطاء الإملائية والنحوية، ويظهر العجز عن صياغة فكرة واضحة بلغة سليمة، إلى حد يجعل أي مهتم بالشأن التعليمي أو الثقافي يشعر بالحرج، بل بالخوف، على مستقبل اللغة في المجتمع.
ولا تكمن المشكلة، في جوهرها، في قلة الاهتمام أو ضعف التخطيط، بل في محدودية فاعلية الممارسة التعليمية داخل الصفوف. فاللغة العربية كثيرًا ما تُدرَّس بوصفها مجموعة من القواعد المجردة والمعلومات المنفصلة، وتُختزل في الحفظ والاستظهار استعدادًا للاختبارات، بدل أن تُقدَّم بوصفها مهارة حيّة تُكتسب بالممارسة اليومية، والقراءة الحرة، والكتابة المتدرجة، والنقاش، والتفكير الناقد. كما أن هيمنة الاختبارات، والتركيز على اكتساب الدرجة أكثر من الكفاية، أسهما في إضعاف بناء الملكة اللغوية العميقة لدى المتعلم.
ويُضاف إلى ذلك تفاوت مستوى إعداد معلمي اللغة العربية في الجوانب التطبيقية والمهارية، وقلة البرامج التدريبية النوعية لهم، التي تعالج تعليم العربية بوصفها لغة تفكير وإنتاج معرفي، لا مجرد مادة دراسية. كما أن البيئة اللغوية العامة، في الإعلام والفضاء الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي، لا تدعم الفصحى دعمًا كافيًا، بل تزاحمها بأنماط لغوية هجينة، تُضعف الذائقة، وتربك العلاقة بين المتعلم ولغته الأم.
إن استمرار هذا الضعف في اكتساب مهارات اللغة العربية بمستويات عليا لا يقف أثره عند حدود التعليم، بل يمتد إلى الهوية الوطنية والقيم العربية في المستقبل. فاللغة هي الحاضن الأول للهوية، وحين تضعف، يضعف معها الشعور بالانتماء، وتتآكل القدرة على نقل القيم، ويخبو الإبداع الثقافي والفكري. والمجتمع الذي لا يُتقن لغته، يعجز عن إنتاج أدب حي، وفكر أصيل، وخطاب ثقافي قادر على التأثير والحضور في المشهد الحضاري العالمي.
ومن هنا، فإن التحدي الحقيقي لا يكمن في زيادة عدد حصص اللغة العربية، بل في تحويل هذا الجهد الرسمي إلى أثر ملموس في حياة المتعلمين، عبر إعادة النظر في طرائق التدريس، وأدوات التقويم، وإعداد المعلم، وبناء بيئة لغوية داعمة داخل المدرسة وخارجها. فالعربية لا تُحفظ بالمناهج وحدها، بل تُحيا حين تصبح لغة التفكير، ولسان التعبير، وأداة إنتاج الثقافة والفكر. وحين يتحقق ذلك، تُصان الهوية الوطنية، وتُبنى قيم عربية راسخة، قادرة على العطاء والاستمرار في عالم لا يحترم إلا من يحسن التعبير عن ذاته بلغته.