السموأل محمد إبراهيم
في إطار فعاليات موسم الدرعية المبهرة، التي أصبحت منارة ثقافية تسطع في سماء المملكة، أقيمت ورشة العمل المتخصصة بعنوان «أسس ترميم الوثائق والمخطوطات» بالتعاون مع مكتبة الملك عبد العزيز العامة، لتسليط الضوء على أحد أرقى وأهم أبعاد الحفاظ على التراث الثقافي، سواء المادي أو غير المادي.
وقد قدمت الورشة سعادة الأستاذة شذا العجمي، مديرة مركز الترميم وإدارة التراث الثقافي بمكتبة الملك عبد العزيز العامة، التي تعد من الأسماء اللامعة في مجال الترميم.
تتمتع الأستاذة العجمي بخبرة علمية وعملية استثنائية، حيث تمتلك مؤهلات أكاديمية رفيعة في هذا المجال، فضلا عن سجل حافل بالإنجازات العملية التي شهد لها القاصي والداني. فبفضل إلمامها العميق بالعلوم الخاصة بالترميم والحفاظ على موارد التراث الثقافي، استطاعت أن تساهم بشكل فاعل في صون تراث الأمة العربية والإسلامية. لقد كانت الورشة تحت قيادتها محفلا معرفيا استثنائيا، حيث جمعت بين الدقة العلمية والتطبيق العملي المباشر، مما جعلها محط إعجاب جميع المشاركين، الذين اطلعوا عن كثب على الأسس العلمية والفنية التي تقف وراء علم الترميم.
ومن خلال هذه الفعالية، أتاح هذا اللقاء الفريد للمشاركين فرصة غير مسبوقة لفهم أبعاد وأهمية ترميم الوثائق والمخطوطات في الحفاظ على الهوية الثقافية للأمم، في وقت تتسارع فيه التحديات التقنية والزمنية التي تهدد هذا التراث. وبذلك، كانت الورشة بمثابة حلقة وصل حيوية بين الماضي والحاضر، مؤكدا على أهمية الدور الذي تلعبه المتخصصة مثل الأستاذة شذا العجمي في إثراء المشهد الثقافي وحماية الذاكرة التاريخية للأجيال القادمة.
لقد شهدت الورشة إقبالا كبيرا من الزوار، العرب والأجانب على حد سواء، الذين تجمعوا ليتعرفوا عن كثب على فنون الترميم المتطورة وتقنياته المتجددة.
وبينما كان الحضور يتابعون بعناية شديدة، تأكدوا أن التراث ليس مجرد أشياء ماضية، بل هو هوية تكتب في وثائق ومخطوطات، وأن الحفاظ عليه هو حماية للذاكرة الثقافية التي تشكل جزءا لا يتجزأ من تاريخ الأمم والشعوب.
وقد تمكن المشاركون من الاستفادة من المزيج الفريد بين الشرح العلمي المتخصص والتطبيق العملي المباشر. حيث قدمت الأستاذة شذا العجمي لمحة معمقة حول الأسس العلمية لعملية الترميم، متبعة منهجا سلسا وواضحا، يربط بين التقنية والمعرفة التقليدية، ويبرز دور الترميم في الحفاظ على القيمة الثقافية والفكرية للمخطوطات والوثائق. كما أتيح للمشاركين فرصة التعامل المباشر مع مواد الترميم، وهو ما أضاف بعدا عمليا مهما وأتاح لهم فرصة التفاعل المباشر مع الأدوات المستخدمة في عملية الترميم.
إن الورشة لم تكن مجرد محطة تعليمية، بل كانت أيضا دعوة عميقة للتفكير في مستقبل التراث العربي والإسلامي، وكيفية الحفاظ عليه في زمن يتسارع فيه التغير التكنولوجي بشكل غير مسبوق.
كما أن الورشة تمثل خطوة مهمة نحو تحقيق تواصل حيوي بين الأجيال، عبر نقل المعرفة إلى يد قادرة على حمل الأمانة التاريخية. وقد أظهر الحضور، الذين جاءوا من مختلف أنحاء العالم، اهتماما شديدا في موضوع الحفاظ على التراث الوثائقي، معربين عن تقديرهم لما تم تقديمه من مفاهيم وأساليب حديثة في الترميم، مما يعكس بشكل جلي رغبتهم في الحفاظ على التراث المعرفي، ليس فقط لبلادهم، بل للإنسانية جمعاء.
يأتي تنظيم مثل هذه الورشات في وقت بالغ الأهمية، حيث أصبحت الوثائق والمخطوطات الأثرية أداة رئيسية في حفظ التاريخ وحمايته من الاندثار، خاصة في ظل التحديات التي يواجهها التراث الثقافي من عوامل الزمن والتآكل. إن استثمار الخبرات المحلية والعالمية، وتوظيفها في مجال الترميم، يفتح أمامنا آفاقا جديدة لحفظ تراثنا بشكل يواكب التقدم العلمي والتقني.
وفي ختام هذه التجربة المعرفية الثرية، تبرز ورشة «أسس ترميم الوثائق والمخطوطات» بوصفها علامة فارقة في مسار الوعي الثقافي والتاريخي، ومنعطفا مهما في إدراك قيمة الذاكرة الوطنية بوصفها كيانا حيا يستحق الرعاية والحماية.
لقد أكدت هذه الورشة أن صون الوثيقة والمخطوطة ليس فعلا تقنيا فحسب، بل هو التزام أخلاقي وحضاري تجاه الماضي، ومسؤولية واعية تصان بها هوية الحاضر، وتمهد بها دروب المستقبل، ويأتي هذا الجهد المعرفي امتدادا لدور المكتبات العامة بوصفها مؤسسات ثقافية فاعلة في بناء المجتمعات وتعزيز وعيها، حيث يتجاوز دورها حدود تقديم المعرفة داخل جدرانها، ليصل إلى المجتمع في فضاءاته المختلفة، حاملا إليه المعرفة في سياقها الحي والمتفاعل، ومؤكدا أن الثقافة رسالة تعاش وتشارك، لا مجرد محتوى يحفظ.
في هذا السياق، يطيب لنا أن نتقدم بخالص الشكر والتقدير إلى مكتبة الملك عبدالعزيز العامة، ممثلة في مركز الترميم، على تفاعلها البناء ومشاركتها المميزة ضمن فعاليات موسم الدرعية، ذلك التفاعل الذي جسد وعيا عميقا بأهمية ربط التراث بالمجتمع، وإحياء الذاكرة الوطنية في سياقها الثقافي الأوسع، بما يعزز حضورها في الوجدان العام.
وبفضل مثل هذه المبادرات النوعية، يمكننا أن نطمئن إلى أن ذاكرة الأجيال القادمة ستظل محفوظة في سجلات راسخة، تحميها المعرفة، ويصونها الوعي، ويؤطرها الإحساس العميق بالمسؤولية الثقافية، لتبقى جذوة التراث متقدة، ممتدة عبر العصور، شاهدة على عمق حضارتنا واستمرارية عطائها.