الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 1st May,2006 العدد : 151

الأثنين 3 ,ربيع الثاني 1427

مأساة الليبرالية الجديدة (4)

*فاضل الربيعي:
كان الرصافي نموذجاً، قلما صادفه المرء في التاريخ الأدبي للعرب، للشاعر الذي تجرفه الأحداث من دون تبصر أو مقاومة.
كان إغراء الاستشراق طاغياً وبحيث ُصور احتلال فلسطين من قبل البريطانيين، كما لو كان هو أيضاص، استطراداً في العمل الشاق نفسه من أجل الحرية.
في تلك اللحظات الطويلة والفاصلة أيضاً تراءى الجنرال البريطاني مود في مرآة الاستشراق في صورة فاتح عظيم، وهي صورة سرعان ما تلقفها الحداثيون وراحوا يروجونها في شعرهم.
وكانت الموجة الأولى من الأفكار الليبرالية قد انطلقت، لتتشكل عندئذٍ ما يمكن اعتبارها الملامح الأولى لتيار ليبرالي ينادي بالإصلاح والحرية الفكرية. ولكنه برغم كل حماسته ظل تياراً نخبوياً معزولاً يتكلم بنوع من الرطانة عن مواضيع لا تعرف عنها الغالبية في المجتمع شبه الأمي، أي شيء له قيمة أو تأثير في حياتهم اليومية، بينما على الطرف الآخر بدا الكتّاب والشعراء التقليديون أكثر تماساً وقرباً من المواضيع الحارة.
انتهت الليبرالية الأولى إلى الفشل والهزيمة الماحقة لأفكارها، مع فشل وسقوط الحلول الاستشراقية التلفيقية وتحول الفاتحين العظام إلى مستبدين عظام. كانت نواياهم حسنة ولكن ألسنتهم كانت طويلة، حتى ان بعضهم لم يكن ليتردد عن تبرير جرائم الاحتلال البريطاني والدفاع عن منطق الحلول الاستشراقية، كما فعل الأب أنستاس الكرملي في صحيفته (العرب) التي أصدرها فور سقوط بغداد وبناء على طلب من الجنرال مود نفسه، وكانت مهمتها تبرير السياسة البريطانية والدفاع عنها. ولذلك رأينا الزهاوي يعلن ندمه، بثورة 1920 صير من اندلاع الثورة وتعرض قادتها للبطش، على تسرعه وطيشه في تأييد البريطانيين.
ويبدو أن قسوة الإنجليز وبطشهم بثورة 1920 كانت من بين أكثر العوامل التي دفعت به إلى الشعور بالخيبة. وكما لاحظ إبراهيم الوائلي (ثورة العشرين في الشعر العراق ص: 160) فقد هزًت الزهاوي ومن الأعماق سلسلة المآسي التي تعرض لها الثائرون، وشعر أنه وبعد أن تخلى عن الثورة وناهضها، واعتبرها تمرداً ضد روح العصر قد أصبح ضحية سخط وغضب شعبيين، ولذا أبدى في وقت لاحق شيئاً من الندم على مواقفه المتسرعة هذه.
إن الإنصاف يقتضي الإشارة إلى أن الزهاوي كان نموذجاً للشاعر والفيلسوف القلق، الذي لم يكن راغباً ولا مستعداً لتصديق دعاوى المثقفين التقليديين القائلة: إن الغرب لن يسمح في النهاية وبقطع النظر عن شعاراته للشعوب الضعيفة بمشاركته في قيم الحرية والمدنية أو التقدم.
إن فشلاً وإخفاقاً ثم تلاشي جاذبية أفكار الليبرالية الأولى في العراق والمنطقة ناجم بالدرجة الرئيسة عن ذلك القدر المريع من التناقض المستعصي على التفكيك، بين الحاجة إلى الإصلاح والحرية والتحديث، وبين ارتباط هذه الحاجة بالضغط الخارجي القوي الذي سلطته أوروبا على العثمانيين.
لم تتمكن النخبة الفكرية العراقية من تقديم مقاربة بناءة تعيد فك الارتباط بين مطالب الإصلاح والخطر الخارجي الذي استغل هذه الحاجة أو على الأقل أن تقوم بتحويل مطالب الإصلاح إلى مطالب ذات مضمون وطني (محلي) وفي الآن ذاته مشاركة المجتمع مخاوفه من الخداع الاستعماري وضغوطه ومخاطره الجدية، وهي مخاوف كانت تنتشر في البلاد طولاً وعرضاً وتعم مختلف الشرائح.
كان استبداد العثمانيين، يبدو - بالنسبة للمجتمع - غير قابل للمقايضة برهان غامض وغير محسوب على العامل الخارجي، الذي استثمر بدهاء مخاوف العثمانيين من الإصلاح ليرمي بكل ثقله خلف شعارات التحرير من الاستبداد ويجعل منها مطلباً وطنياً (محلياً).
بكلام آخر موازٍ فإن من قام بفك الارتباط وتوطين هذه المطالب، ومن ثم تحويلها إلى قوة ضغط فاعلة كسبت جمهوراً واسعاً إلى جانبها وخصوصاً في أوساط المقهورين من البسطاء وعامة الناس المتطلعين للخلاص بأي ثمن حتى وإن كان احتلالاً آخر، إنما هو الخارج نفسه الذي حرك أساطيله وجيوشه لدك آخر إمبراطورية إسلامية ليست جماعات الإصلاح التي أخفقت حتى على مستوى تحليلاتها للظروف، هي من قدم هذه المقاربة، وليست الليبرالية الأولى هي من قام بفك الارتباط، بل المستعمرون أنفسهم وذلك حين قاموا بتقديم شعار التحرير على شعار الاحتلال وراحوا يغدقون الوعود بالحداثة والرخاء.
وتجلت أكثر أوهام النخب الفكرية والثقافية تضليلاً في هذه النقطة وفي الترويج غير المتبصر لفكرة أن البريطانيين فكوا - عملياً - الارتباط بين مخاوف العراقيين من الاحتلال وبين تطلعهم للخلاص من الاستبداد.
على هذا النحو راجت في أوساط النخبة، وبقوة لا مثيل لها، مزاعم عن أن البريطانيين جاءوا بالفعل كمحررين لا مستعمرين، وأن الإصلاح على أيديهم هو الخيار الوحيد الممكن والقادم لا محالة، وأن لا وسيلة لوقفه أو اعتراضه. وبالتالي لا سبيل لتفادي موجة التغيير الهائلة التي تعم العالم مهما كانت درجة المقاومة التي سوف يبديها المذعورون من المدنية والتحرر.
لقد هبت رياح التغيير مع موجة الفتوحات الاستعمارية وهذا قدر لا مفر منه كما لا تنبغي مواجهته. هكذا كانوا يعتقدون. ولذا جرى وبشكل غير منسق من جانب النخب تقديم مطالب الإصلاح وعرضها على المجتمع كما لو أنها نتاج الوقوع في سحر الغرب وغرامه.
على الطرف الآخر، وبينما كان الحداثيون ينغمسون في الترويج لأوهامهم، عبر رجل الدين والشاعر الثائر محمد باقر الشبيبي ببلاغة نادرة عن خيبة أمل النخب إزاء وعود الحداثة في قصيدة شهيرة خاطب فيها المستر كراين:
هتفوا لتحرير الشعوب ولم يكن
لهتافهم إلا الصدى يتردد
وَعدَوا على الشعب المهيض وشأنهم
في كل مطلع نهضة أن يعتدوا
ظنوا أن العراق الهند أو هو مثلها
كذبت ظنونهم، وخاب المقصد
كان انهيار إخفاق وعود الحداثة وتعاظم درجة البطش والقسوة على أيدي ضباط الاحتلال البريطاني، من بين أكثر الدلائل على أن النخب الحداثية والليبرالية العراقية كانت في وضع يفضي بها، لا محالة، إلى أن تتقاسم الفشل عاجلا أم آجلا مع مَنْ تخيلتهم كمحررين ثابتي الخطى. وليس دون معنى أن مؤرخي الأدب العراقي توقفوا ملياً تنتابهم الحيرة أمام سلوك أبرز ممثلي النخبة الفكرية من الذين امتدحوا الإنجليز ونصحوا العرب (لا العراقيين وحدهم) بالالتجاء إلى هؤلاء المخلصين وترك حكومة الأتراك، والمضي على طريق وعودهم نعني الشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي، حتى ثارت سجالات ونقاشات استمرت لوقت طويل (ما بعد الاستقلال).
نشر الزهاوي أشهر قصائده على الاطلاق، يوم كان لا يزال في مقتبل العمر يعيش في الاستانة، نحو العام 1896- 1897 حسب أفضل تقديرات مؤرخي سيرته الأدبية، وقد وضع لها عنواناً مثيراً واستفزازياً: (ولاء الإنجليز) ثم نشرها في ديوانه (الكلم المظلوم).
استبق الزهاوي المفتون بفكرة الحداثة دخول البريطانيين إلى بغداد (واستبق خطاب الجنرال مود عن التحرير) بأكثر من عشرين عاماً ليعلن ولاءه للغرب وإصلاحاته، وأنه كان وما يزال مؤمناً إيماناً عميقاً بأن روح العصر تعني الإيمان بالتقدم على أيدي الأوروبيين.
يوم كتب القصيدة، كان الشاعر يقيم في الاستانة عاصمة العثمانيين حيث اختلط هناك بالشباب التركي المتطلع إلى سقوط السلطان عبدالحميد. ولذلك ذهب شوطاً أبعد مما ينبغي في إعلان عدائه هو أيضاً للعثمانيين الأتراك، بحيث بات مستعداً أكثر فأكثر للتخلي عن أسلوبه القديم في نشر القصائد بأسماء مستعارة في الصحف المصرية، وراح يجاهر علناً بمديح الإنجليز ومشجعاً قبول معونتهم من أجل الدستور، الذي كان الحزب المناوئ لعبد الحميد يطالب به (وكنتُ قد نظمت لهذه الغاية قصيدة أمدحُ فيها الإنجليز وأشيدُ بقوة أسطولهم، وإلى اليوم يعيبني نقادي على هذه القصيدة). هكذا كتب الزهاوي وهو يترنم بمطالع قصيدته:
تبصر أيها العربي واترك
ولاء (البعض) من قوم اللئام
ووال الإنكليز رجال عدلٍ
وصدق في الفعال وفي الكلام
لم يكن مستر كراين موضوع المديح، شخصاً عادلاً يستحق هذا القدر من الثناء، وما كان الضباط الإنجليز رجال صدق يستحقون كل هذا الاحتفاء بوعودهم المقطوعة للعراقيين، وذلك ما سيقوله الزهاوي بنفسه بعد مشاعر مغايرة. ففي عام 1916 وجد نفسه مضطراً لإبداء مشاعر مغايرة إزاء الإنجليز، وراح يبدي قدراً من التعاطف مع الأتراك خصوصاً مع وصول أنور باشا إلى بغداد في أيار - مايو من نفس العام. لقد وقف يهجو البريطانيين هجاء مقذعا:
نحارب حتى نأمن الغدر منهم
متى يبصروا وهنا من الشعب يغدروا
إلى أن يقول الإنكليز بنفسهم
نعم نحن أخطأنا السياسة فاعذروا
ومع هذا ظل الزهاوي متشبثا بموقفه الأول الذي سبق له وأن عبر عنه: الولاء لبريطانيا؟ حتى بعد اندلاع ثورة 1920 التي راح يندد بها علنا وبصورة استفزازية ألبت عليه جمهوراً واسعاً.
إن النموذجين المتصارعين (نموذج الشبيبي ونموذج الزهاوي) يمكن لهما أن يقدما صورة دقيقة وملخصة عن موقف النخبة العراقية في هذا الوقت، فبينما كان الشاعر التقليدي (رجل الدين الثائر) محمد باقر الشبيبي يتخذ موقفاً راديكالياً من الاستعمار البريطاني برغم مشاعره المجروحة من العثمانيين، كان الفيلسوف والشاعر الحداثي جميل صدقي الزهاوي يتخذ موقفاً مضاداً على طول الخط للثورة والاحتجاج على القمع، بل ويدعو الليبراليين العراقيين صراحة إلى عدم التردد في الاستسلام، دون قيد أو شرط لمن بدوا في نظره محررين. كانت التقليدية والحداثة في لحظة تعارض تاريخية فاصلة في حقل السياسة وإزاء الموضوع نفسه.
وكان الشبيبي المجروح من العثمانيين يكتب قصيدته الجميلة في عتابهم في الوقت ذاته الذي كان فيه البريطانيون يستعدون للغزو:
أما صفحنا عن الماضي لأعينكم
أما أديلت لكم أيامنا الأولُ
(..............)
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved