الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 1st May,2006 العدد : 151

الأثنين 3 ,ربيع الثاني 1427

أغاني الغائبين

*قاسم حول:
في ظرف صعب، وصعب جداً ينتج مخرج سينمائي موهوب هو ليث عبد الأمير فيلما عراقيا وثائقيا طويلا يحمل اسم (أغاني الغائبين). والفيلم يحمل صفتين الأولى، فهو وتحت ظروف الاحتلال والموت والخطف، وبشكل خاص خطف الإعلاميين والسينمائيين والذين يحملون الكاميرات، يخطفون للمطالبة بالفدية إبتزازاً.
وفق هذا الواقع سافر المخرج من فرنسا وجرد العراق سينمائياً من شماله إلى جنوبه في رحلة محفوفة بالمخاطر الحقيقية.
لقد عاد المخرج من العراق وبحوزته كمية من الأشرطة التي تحتوي على وثائق مهمة عن العراق، ثروة وثائقية حقيقية ومصورة بشكل ممتاز وحرفي عالي المستوى ولم يصدق أنه وصل إلى فرنسا وهو يحمل كل تلك الأشرطة سالمة معافاة.
الصفة الثانية في هذه التجربة، أنه عمل مونتاج فيلمه وكتابة التعليق والموسيقى في مكان يمثِّل استراحة المحارب وأصبح مسترخياً يملك قدرة التأمل والبناء واختيار كل مفردات لغة التعبير اللاحقة في الإنتاج السينمائي. عندما شاهدت الفيلم وأدهشتني مشاهده الوثائقية، بقدر ذلك الاندهاش حزنت أن المخرج وهو موهوب حقاً لم يتمكن من بناء فيلمه بناء صحيحاً، حيث ضاع وسط زحمة وكثرة المادة المصورة، فكأنه أراد أن يضعها كلها في فيلمه بدون حسابات القيمة الفنية والجمالية، فحزنت أنه أضاع جهوده العظيمة في اختراق العراق سينمائياً ليضيعها في فرنسا.
وسؤالي المحير، هل أن الظرف الصعب ينتج أكثر من ظروف الاسترخاء في الثقافة والفن، أم أن ثمة ظروف إنتاجية لاحقة تتعلق بطبيعة المنتج وشروطه قد أربكت وضيعت مخرجنا الموهوب ليث عبد الأمير.
لقد خرج الفيلم من خانة السينما ودخل في مطب البرنامج التلفزيوني، فثمة مشاهد ذات طابع يومي آني إعلامي ومعلوماتي ينتهي مفعولها بانتهاء الفترة، فيما السينما تتحدث عادة عن قيم ثابتة، عزز ذلك السقوط في ما يشبه البرنامج التلفزيوني التعليق غير السينمائي، فكتابة التعليق السينمائي يحتاج إلى خبرة سينمائية. هو ليس أدباً، ليس ديباجة أدبية، ومثل المادة المتوفرة بحوزة المخرج لا تحتاج إلى شريط التعليق الصوتي، كنت أتمنى لو قال لنا بمقدمة شاعرية معلوماتية وتركنا نرحل في عالم العراق من اللقطات المدهشة التي صورها إلى بعض اللقاءات إلى المؤثرات الصوتية.
الموسيقى في الفيلم لم تكن موفقة أيضاً، ومع أن المشاهد قد لا يدرك الصح والخطأ في استعمال الموسيقى التراثية ولكن وجود الموسيقى المعبرة في مكانها الصحيح يؤكد في لا شعور المتلقي صدق وصحة العلاقة الجدلية بين الصورة والصوت. فعلى سبيل المثال استعمل المخرج موسيقى المقامات البغدادية داخل مضيف ريفي كان يحتاج إلى موسيقى الريف والأهوار. أكثر الفيلم من (الأفندية) ليناقشوا بطريقة تلفزيونية أحداثاً معينة كأن تناقش قضية كركوك والتركمان والأكراد أو حرية المرأة في مقابلات لم تكن موفقة على الإطلاق. فظهور الأفندية المتحذلقين في أحاديثهم السياسية وخز الصور الشاعرية المصورة وخزاً ودمر مسار الفيلم وصيغته.
إن مقابلة مع امرأة يخرج الدخان من تحت الكادر ما يعني وجود سيكارة على الطاولة دون أن تستعملها لا يوحي بالجمال ولا يسر النظر، هذا إضافة إلى أن تلك المقابلة وغيرها من المقابلات ليست سوى تحويل في مسار الفيلم من السينما إلى البرنامج التلفزيوني. وحتى المغني الذي صوره وسط النخيل في مدينة الناصرية فإنه لم يكن ذا صوت شجي وقد جلس بقميصه السبور وبنطال الجينز ليهشم صورة المطرب الريفي ويوخز الصورة الريفية بنخيلها يداعب الهواء سعفاتها فيأتي تشكيله نشازاً، فلم تكن الصورتان متطابقتين، صورة المغني وصورة بستان النخيل. لم يكن الفيلم بحاجة إلى أي واحد من الأفندية ولا لأية واحدة من اللواتي ظهرن في الفيلم يتحدثن عن السياسة والتحليل. وحتى أبناء العشائر الذين تحدثوا في الفيلم كان على المخرج أن يأخذ من أحاديثهم القيمة الفكرية بجملة أو جملتين ذات دلالة تصب في ثيمة فيلم مفترض يبني كل مشاهده في مسار يحقق تلك الثيمة.
المواد التي كانت بحوزة المخرج والتي حققها مع مصوره وبجرأته في السفر واختراق مواقع التصوير ومن فيها وفرت له إمكانية عمل سيمفونية سينمائية بوقت أقل وبمتعة أخاذة كان يمكن أن لا تنسى في عالم السينما العربية وغير العربية في مسار ومنهج الفيلم الوثائقي. وفي رأيي أن الفرصة لا تزال مواتية أن لا يذهب بعيداً في توزيع فيلمه ويفككه من جديد ويعيد بناءه، فالخسارة المادية أقل بكثير من خسارة قيمة الفيلم وضياعه.
طقوس عاشوراء المسرحية التي تقدّم في الهواء الطلق من قبل المواطنين وهي طقوس تشبه طقوس الإغريق في متذرعات أسخيلوس فيها من البساطة ما يمكن معالجته في اختيار اللقطات الجميلة وإبعاد الطريقة الساذجة في الأداء والتعامل معها بطريقة تعبيرية مع موسيقى أو مؤثرات صوتية ليخرج بمشهد شاعري مؤثِّر، فقراءة الواقع لا تعني نقله فوتوغرافياً، بل التعبير عنه بقيم جمالية من خلال عين المبدع. كان يمكن أن نرى تلك المشاهد بحركة بطيئة مضافاً إليها مؤثِّرات لونية أو بصرية خاصة فتخرج من البساطة إلى التعبير والقيمة الجمالية العالية. هناك مشاهد جميلة في زخم الضياع منها مقهى الزهاوي التاريخية في عالم المثقفين والثقافة، نفذ هذا المشهد تصويراً ومونتاجاً بشكل جميل وكذلك سوق السراي لبيع الكتب في الشوارع. في كل مشهد جميل من سيمفونية عراقية ممكنة كانت أن يزوّدنا المخرج عند الضرورة بمقاطع من تعليق قصير سينمائي يدخلنا إلى المشهد ولم نعد بعدها بحاجة إلى سماع الصوت للمعلق الذي لا يضيف شيئاً إلى الصورة، بل يسرق جمالها ويتعبنا ويحرمنا من مشاهدة جمال تكوينات الكادر التي أبدع ليث عبد الأمير في التقاطها.
أن تظهر في العراق وعند العراقيين سواء الذين يعيشون داخل العراق ويحفرون مسار السينما بأظافرهم صورة صورة أو الذين يحصلون على فرص الإنتاج ويعودون لوطنهم حاملين أرواحهم على أكفهم كما فعل المخرج الموهوب ليث عبد الأمير فإن ذلك يؤكّد حقيقة إصرار الشخصية العراقية على الصمود في وقت غزت فيه تيارات لا تحترم الثقافة الواعية الحرة ولا تحب السينما، وفي وقت يداهم فيه أصحاب الأفكار السلفية محلاً لبيع الحلويات لأن علبة حلويات عليها صورة فتاة، فإن ليث عبد الأمير اقتحم هذا الواقع بشجاعة ووثق وطنه بعين صافية تعرف الجمال وتعيه، ولكن عتبي عليه أنه لم يدخل غرفة المونتاج بذات القلق الذي دخل فيه الوطن.
بعد أن كتبت هذه الكلمة عن الفيلم قررت أن أرسلها للمخرج قبل نشرها وقلت له، هذه كلمة عن أغاني الغائبين، وأنت تقرر أن أنشرها أو تعتبرها ملاحظات من زميل مهنة لزميله. قرأها وبكل ثقة بالنفس طلب مني نشرها وحدثني عن ظروف مونتاج الفيلم في فرنسا، وقلت له أكتبها ودعني أرفقها بالمقالة لنحقق كتابة نقد غير مسبوق أن نرفق وجهة نظر المخرج بالناقد. فكتب لي يقول:
أحييك وأشكرك على صراحتك وجهدك بالكتابة عن فيلمي المتواضع ويسرني في هذه المناسبة أن أدون بضعة ملاحظات أراها مناسبة. فكما تعلم هناك نوعان من الإنتاج السينمائي أو التلفزيوني الأول يعتمد على التمويل الذاتي كأن يمول مخرج الفيلم وربما بمساعدة مجموعة من الأصدقاء والأقرباء في مشروعه الفيلمي وهنا يكون التمويل في غالب الأحيان متواضعاً ولكن لصانع الفيلم الحرية الكاملة ببناء فيلمه واختيار مادته وتسمى هذه الأفلام (بسينما المخرج أو المؤلف).
النوع الثاني وهو أفلام تنتج بميزانية جيدة نوعاً ما وبتمويل من قناة تلفزيونية أو منتج محترف وهي (أفلام الطلب) وإلى هذا النوع تنتمي أفلامي التي أنتجتها في أوربا وعن هذا النوع من الأفلام أحب أن أدون بعض الملاحظات.
إن فسحة الحرية في التعبير واختيار اللغة السينمائية تضيق في (أفلام الطلب).والفيلم في هذه الحالة ملك للقناة التلفزيونية الممولة أو لمنتجه وعلى المخرج هنا أن يجيد لعبة الموازنات، فإذا كان هو صانع الفيلم وسيد الموقف أثناء التصوير ففي غرفة المونتاج يتحول صانع الفيلم إلى دبلوماسي محنك أو كيميائي عليه أن يوازن عناصر معادلته، وبالضد من ذلك سيكون مجبراً على التخلي عن المادة الفيلمية المصورة لصالح المنتج ليعمل منها منتوجاً جديداً يناسب توجه القناة التلفزيونية الممولة والمنتج على حد سواء.
لذا فإن ملاحظتك صحيحة بأنني وقعت أحياناً في مواصفات العمل التلفزيوني، وذلك لأن الفيلم تلفزيوني فعلا، وكل مشهد مرسوم خارج اللغة التلفزيونية هو فضاء الحرية الذي سرقته من مقص الرقيب. وأسعى في أفلامي وكلها تصنف من (أفلام الطلب) أن أضع بعض من بصماتي كسينمائي على تلك الأمتار من الشريط السينمائي والتي أحفر عليها أسلوبي الفني المتواضع، وهذه اللغة القادمة من لعبة الضوء والظل - السينما هي ما أصبو إليه في كلّ شريط أنتجه.
لقد تعمدت عدم المساس ببساطة المشاهد التسجيلية الخاصة بعاشوراء مثلاً والتي وددت أن أجعلها واقعية لإعطاء بعد درامي وتسجيلي، حيث يجري أمام أعيننا مشهد مسرحي ولكن الجمهور يعيش المأساة بواقعية وصدق والمؤثرات الصوتية واللونية، التي أشرت لها بمقالك، ستكون عملاً مصطنعاً يسيء إلى واقعية المشاهد، وأنا من المدافعين عن الاقتصاد في استهلاك التقنية والمؤثرات الصوتية للبناء الدرامي في الفيلم التسجيلي.
واسمح لي أن أتفق مع ملاحظاتك، عن المشاهد الحوارية والتلفزيونية والتي اعتبرتها زائدة، إذا كان الفيلم منتجاً سينمائياً وأن أختلف معك وخاصة في حالة اعتبار أننا أمام فيلم تسجيلي تلفزيوني وعليه من المجحف أن نعتبر الحوارات مع الأفندية والنساء مادة غير مبرر خاصة أننا هنا أمام نساء عراقيات مثقفات وناشطات في مجال المجتمع المدني وهنّ شجاعات وحضورهنّ في الفيلم تأكيد على دور المرأة العراقية، وكانت هذه المشاهد محل اعتزاز ودهشة أحياناً لدى المشاهد الأوربي الذي تعود على صورة نمطية للمرأة المغيبة و(أغاني الغائبين) قدّم له نموذج من نساء جريئات في طرحهن ويشكلنّ جزءاً فعّالاً من نسيج المجتمع العراقي وسأكون مجحفاً بحقهنّ إن لم يظهرن في شريط الفيلم وهنّ جزء من الغياب الذي أعنيه. أود أن أوضّح أيضاً وهذا لا يغيب عنك كسينمائي ومبدع أن المتلقي الأوربي يختلف في تقييمه للأفلام عن المشاهد العربي، حيث الكثير من الصور والأفكار التي ربما تستفز المتلقي العربي أو يراها زائدة، تجدها عند المشاهد الأوربي مبررة سينمائياً وجمالياً ويتفاعل معها والسبب هو ليس في اختلاف التجارب والمعارف السينمائية لدى الجانبين وإنما في نوعيّة الثقافة والتي هي نتاج اجتماعي كما أعرف. أتفق مع رأيك عن مغني الناصرية وكان جميلاً أن يظهر في الزي التقليدي، ولكن ظهوره بالجينز هو شكل من أشكال التحدي وهو يريد أن يقول بأنّه إنسان متحضّر ضد القديم وما إصراره على الغناء ولو في مكان ناء في حقل النخيل إلا شكل من أشكال الرفض. وبهذه المناسبة لا يسعني إلا الاختلاف معك بخصوص الموسيقى التصويرية والتي كان اختيارها مبنياً على أساس مدروس ولا يمكن اعتبار عدم الالتزام بقاعدة في مشهد معين (الأهوار) هو خلل يشمل الفيلم بكامله. فالموسيقى كانت عراقية (آلة الجوزة) ويمكنها أن تصدح في أي متر إذا كان لوجودها أثر إبداعي أو حسي.
(ليث عبد الأمير).


sununu@wanadoo.nl

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved