الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 1st May,2006 العدد : 151

الأثنين 3 ,ربيع الثاني 1427

استراحة داخل صومعة الفكر
الحنين

*سعد البواردي:
الشاعر التركي محمود عارف قدم لنا طبقاً شهياً من حنينه الدافئ، عرَّفنا به دلالة وترجمة أحمد الخاني.. حنين الشاعر دون فواصل.. إنه عنوان واحد متواصل تتحرك داخل دائرته الشعرية كل عوام الرؤى والأخيلة المجنحة.. هو بالنسبة إلى رحلتنا محطة واحدة نطوِّف بغرفاتها.. ودهاليزها وشرفاتها، بل حديقتها التي تستوعب فوق تربتها أطياف الربيع المخصب.. وبقايا من أشجار عصفت بها أيدي الخريف القاسية..
(القافلة) مطية تحط داخل المحطة.. وتنوخ تحت فيء ظلالها ترقب ما وراء أسوار الدار:
وجه السراب كموج الزورق الغرق
يصب بركانه من هامة الأفق
لفح الصحارى لهيب طار من سقر
مع السراب غرير النار في الشفق
يشوي اللهيب ضلوع الجيد لامعة
هذا السراب دموع الرمل في الخُرق
شاعرنا يهوى الفجر.. ويهفو إلى السحر.. ويتطلع إلى الموج المتدفق وسط خياله السابح في بحر الحياة:
أأنت؟ يا موج بحر نام المنية
قبل الغروب على شطآن مرتجف!
لا يطيق انتظار الليل المطبق بسواده.. ولا صحراء دواخله اليابسة والعابسة.. يريد وهج الصبح.. واخضرار الصحراء.. وخرير المياه
يا وهج روحي يا صحراء فابتسمي
وعللينا. فأنفاس المساء نفي
ويبرق الأمل.. وتشرق تباشير عيد منتظر طالما رنا إليه في شوق ولهفة
في كل يوم لنا عيد يحدونا
لما ثوى قرصها في جرحه النزف
غيم.. وطل على صخر فيورق لي
ومض المحاجر فازجر دمع مغترف
صحراء شاعرنا بدت مخصبة معشبة لأنها المكان، والزمان، والحياة
كحل الصحارى أنيق في ندواته
يخضل هدب الشذا في روحه الخمل
الطل يتساقط برذاذه فينعش التُرب.. والنهار أطل بإشراقة رمز فجر جديد..
أطل صبح به الآمال والألق
وهاجت النوق في البيداء تستبق
هذا أجمل ما يحلم به الرعاة.. فهو بالنسبة إليهم متعة الحياة وربيعها
صرنا عطاشا من الآمال. حببها
للروح فجر من الأعماق ينبثق
إنه أكبر ثراء من فجر الآفاق.. لأنه فجر أمل يعتمل في دواخل الإنسان لا مكان لليأس فيه.. وفجر حب يشتعل يرنو إلى غايته..
لحني تهادى أصيلا. دامعا دلها
جذب من الوجد يملي سر بهجتها
يا دار ليلاي روحي في الهوى سفحت
دفنت شعري. شعوري عند روعتها
كل الأحاسيس غرقى في بحار سنى
من بحر انوار ليلى عب واغترفا
يا نشوة الروح هل يصحو بغفوته؟
أم مات من وجده في حبها دنفا؟
تعذبك يا مهجتي. يا نور مقلتها
منا النفوس. فما الأرواح والمهج؟!
كل هذا السرد الوجداني المطرد أخذ بتلابيب شاعرنا التركي محمد عاكف.. إلى أين وصل بغرامه وهيامه؟ هل عاتبه أحد على حبه..؟ هل عاقبه أحد عليه؟ ربما:
وعاتبوني.. وقالوا: لو صبرت له
وكيف صبري؟ دموعي مقلة الدِّيم
وصرت في رحلتي سمعي وباصرتي
قلبي جريح.. عُلا (الإسلام) كالحلم
هذا الحب الطاغي في نفسه لم يكن غرام حسناء.. هذا التجشم الصعب لصحرائه.. هذا الظمأ لنوقه.. هذا السفر المضني لم يكن من أجل (ليلى) فاتنة بقدمها ونهدها، وندها.. كان أسمى من كل هذا وأروع:
لأجل قلب تلقى ساجدا ضرِعا
لأجل روح تبدى في النوى جَزِعا
لأجل كعبتك الأسنى بها شغفي
لأجل آيات قرن بهن دعا
لأجل آيات خلق لا انتهاء لها
لأجل دمعة من لبَّى ومن سمعا
يرفع شاعرنا المسلم كفيه نحو السماء في ضراعة وابتهال:
رباه فامنح لنا سراً يجددنا
كي ننتضي في ضيانا السيف والقلما
ويلتفت يمنة ويسرة.. وكأنما يحاول أن يحصي كل من حوله كي يُسمعهم صوته:
أخي متى وحدة الإيمان تجمعنا
ففي تمزقنا لهفي غدا وطنا!
يعشوشب الليل في داري ويكبت في
كهف المحاجر سيفا فالدجى وَرِما
الصبر أزهر. كدنا نحسد الرمما
فالضوء أخضر. هيا نعبر الأمما
شارة العبور الخضراء مفتوحة للسالكين يطالب باجتيازها قبل أن تقفل المسالك شارتها الحمراء.. يريد شاعرنا عصر نهضة جديداً لا تخلف فيه؛ في قاعة بيته الواسعة لوحة عنوانها (لا بأس) مضمونها يقول:
هل ترى المصباح في الروح انطفأ؟
هل جفاك الصبح؟ ما أقسى الجفا!
بسمة الآمال فجر مورق..
ورياض، ونعيم، وصفا
يا ظلالا رقصت أهدابها
كنسيم الروض. روحي!.. قد هفا
شفق أخضر في روح الفتى
أي دمع من بؤوس قد شفى؟!
اليأس القاتل شبح يجثم أمام شاعرنا يستفزه نحو الصمود والصحوة.. إنه يخشاه.. ولا يخشاه:
لو طعنت اليأس في أحشائه
صرت بالإيمان جيشا ظافرا
وفي زاوية من زوايا القاعة لوحة صغيرة عن الغرباء.. غرباء الديار:
زحف الغرباء لأوطاني
سرقوا من حيي إنساني
سملوا عينا. ذبحوا طفلا
سلبوا شيئا من أركاني
في روحي خنقوا صرخاتي
في جفني دفنوا بنياني
ويل للغرباء تمادوا
أيفيق الثأر بأوطاني؟!
لوحة فمها صارخ تشير إلى داء الأعداء.. وتتساءل مع نفسها ومع غيرها عن الدواء الذي يصد داء الأعداء؟ المأساة أن الداء استشرى واستفحل خطره في الجسد العربي والإسلامي.. كانت هناك غربة وغرباء فلسطين.. واليوم غرباء جدد على شط دجلة والفرات.
وفي الشيشان. وأفغانستان.. ومواقع أخرى تستنزف الجسد وتمتص دمه دون رحمة..
شاعرنا في ديوان حنينه يحن إلى الماضي يوم أن كان للإسلام صوت يلعلع في سماء مناراته.. ومناداته للصلاة:
على نفسي سفحت اليوم دمعي
غريب الروح في زهري. وطلعي
فلا صوت الأذان غدا يناغي
به (حي على الصلاة) شدا بسمعي
ولا صوت الإمام. وكان قبلا
لكل ملمة. وأمان روع
إذا يتلو فسمع الكون يصغي
فصار اليوم في هجر. ورفع
لرسول الإنسانية محمد عليه السلام حديث هذا معناه أو نصه: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء..) عالمنا يعيش غربة روحية.. وفوضى اجتماعية.. وأطماع استعمارية..
يمزقني انقياد للدنايا
أأضحى الطهر في فهم الخطايا؟!
كأن لهم مع الأنوار ثأرا
فأزهار الضيا أضحت هدايا!
إذا كان النهار غدا ظلاما
فآلامي تزيد على المنايا
ولكن ما وجودي في وجودي
إذا لم أنتزع قلب الرزايا؟
إرادة.. قهرها صمت الصامتين.. وعبث العابثين!
وفي أحد زوايا أيكته اليافعة بثمارها لفتت الأنظار لوحة شعارها: (حينما تندى الجباه) تتحدث عن إنسان دامع الشجو مقلتاه تهميان بمائهما الساخن.. يلفه الشرود بتساؤل:
شارد الأهواء.. قل لي موطني
إن حقي في حياة الكرم؟
سيف تاريخي شدا.. من كمما
كيف يبقى في جراب الظلم؟
(من كمما) عبارة غير واضحة.. يمكن أن تكون جلية لو جاء الشطر كما يأتي: (سيف تاريخي شدا من غمده) وبصرخة إيمانية:
صرخة الإسلام تبكي. أسْمِعْ لها
مَن سيصغي لدموع اليُتم
أي لؤم ملحد في أرضنا
والبرايا أتحدث من حولنا
وأيضاً مفردة (أتحدث) صحتها (اتحدت) من الاتحاد إلى أن يقول:
إن ما ترشحه جبهتنا
قطرة صغرى.. أما ضاق المدى
خوفه من طوفان قادم مؤشراته تنبئ عنه وينتهي به مطاف خطابه:
حينما تندى جباه جبلت
بدماء الذل تصبح سيدا!!
في ركن حالم تضيئه شموع متوقدة كان لشاعرنا التركي معها وقفة تساؤل:
وسألتني: في الشرق طفتَ فما ترى؟!
فبكى فؤادي.. قبل عينيها جرى..
سأَلَتْ وبادرت الحديث. سبقتها:
(أضحت مغاني النور قفزا أحمرا)
فلقد رأيت الشرق مسلوب النهى
أمما بلا رأس. وكان على الذُّرا
فغدا يتيما قد همى مُرَّ الدما
ورأيت دربا ليس فيه من سرى
شريط حزين من مشاهدته الكثيرة عن شرقه الشارق بتخلفه:
وارى وجوها خُددت آماقها
تتبختر الزفرات في أناتها..
وارى ظهورا قُوِّست منخورة
قد تنتحي دهرا لبعض فتاتها
وارى. واسمع كل آن آهة
تتصدع الآهات من آهاتها
من السبب في كل هذا التراجع والموجع؟ هذا ما أشار إليه بقلمه:
فالغرب قد غسل الدماغ. وروحنا
جفت. فلا تندى ببذل هباتها!
وأرى قلوبا أحكمت أقفالها
وأرى عقولا همها رد الصدى
وأرى نفوسا ما ضمائرنا؟! غدت
صدى.. فلا تجلى بآماق الندى
ورأيت غابات ترحّل حسنها
لا تعرف البذل الهتون. ولا الفدا
هذا ما تحدث عنه شاعرنا التركي المسلم محمد عاكف من خلال انطباعاته عن شرقه منذ عدة عقود من زمن.. ترى لو أن شاعرنا استيقظ من إغفاءته الطويلة الطويلة على شرقه الجديد الأكثر معاناة، ماذا سيقول.. أحسب أنه سوف يسترجع بيت المتنبي
رب يوم بكيت فيه قلما
صرت في غيره بكيت عليه
البكاء لا ينفع حتى للنساء.. إنصافا لهن من تلك المقولة المطاطة: (البكاء للنساء).. هل نسينا (الخنساء)؟
مشهد جديد في جولتنا داخل صومعته الثرية والغنية بمحتوياتها.. وتحفها الفكرية الأثرية: (إلى متى النزاع؟)
شجاني يا أخي عِبَر عتاق
شعوب الشرق انعام تساق
فما الجدوى (لأمثال). أتروى
من التاريخ مشربها النفاق؟!
وهل فتحت عيون الشرق طرفا
على ما كان؟ ضاق بها النطاق
يصل به التوصيف. والتوظيف لمفرداته الساخنة حد التفجر:
غيوم. في سواد. باحمرار
همت بالدار. هل لبستم الوفاق؟
فشمس المشرق تغرب كل صبح
وتشرق في المساء من المغيب
جراح قد تغرِّد في شهيد
والف دم جرى زمن الحروب
ولا زالت دماء الشرق سيلا
ويربو في الجبال. وفي السهوب
كأني به يرسم لوحة مستقبلية لما هي عليه الحال في فلسطين، والعراق، وكوسوفو، والشيشان، وأفغانستان.. وحيث يوجد مسلمون.. تطاردهم تهمة الإرهاب.. ومعاداة السامية.. والتمرد على ديموقراطية لا تعترف إلا بحقوق صانعيها وحدهم دون سواهم..
ألا انظر. قد نثرنا في البوادي
فهل دمع تبدى من حبيب؟!
أأحجار القبور - غدت حطاما
معان من سطور في جباه
حتى القبور جرى نبشها.. حتى المقابر الجماعية لقتلى المسلمين ما زالت تبحث عن دليل يدل عليها لكثرتها..
جباه عوالم كانت قديما
ألمام من رفاتي.. يا إلهي
اذا لاستيقظت ذرات وجدي
وقالت عِبْرة: هل أنت لاهي
فهذا الثرى أجيال نقضت
علام اللؤم فيكم والتباهي؟
وكأنما كان على وفاق مع شوقي في مقولته:
إلام الخلف بينكموا إلامَ؟!
وهذي الضجة الكبرى علامَ؟!
وفي الختام داخل مكتبته.. وإلى جانب مصحف كريم.. ومسبحة.. وبخار عود طري ذكي نقرأ معه ابتهاله أمام محراب خالقه:
إلى الرحمن سار القلب.. فرّا
واضحى الموت في الهيجا ممرا
عُلا الإسلام بنفي.. لا المجرا
لياغي الليل قد هيأت قبرا
لننسج من خيوط الليل فجرا
لننجب للدنى حرّا. فخرّا
استجاب الله دعوتك.. ما أحوج شرقنا إلى عقيدة تذود عن حياضه.. وتبطل مكيدة الكائدين..


الرياض - ص.ب: 231185
الرمز: 11321 فاكس 2053338

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved