الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 1st May,2006 العدد : 151

الأثنين 3 ,ربيع الثاني 1427

الفارس الذي قال لي: وداعاً ومضى؟
*د. مصلح النجار:
قبل أن يدخل غيبوبة الموت بيوم واحد، هاتفني عبد السلام العجيليّ من مدينته الرّقة، وكان يضع حفيدته الصغيرة زين النجار في حضنه، وسألني، وهي تعابث ذقنه، وتلعب بهاتفه الخلويّ، عن أحوالي، وقال لي: إنه مشتاق إليَّ، فبادرتُه بوعدٍ بزيارته بعد عشرة أيام، وكان أن دخل في غيبوبة الموت، فزرْتُه جثماناً، فما أَحْزنني إذ لم أظفر بمجالسته! وما أكبركَ أيها الفارس، فقد أبيتَ إلا أن تكون المتفضّل، حتى وأنت تنسحب.
تتصل بي لتبلّغني اشتياقك، وأتأخّر عن زيارتك، فيعظم إحساسي بالفقد، فأنا فقدتك من جانب، وفوّتّ على نفسي آخر فرصة لتستقبلني ببشاشة وجهك، وطلاقة محيّاك.
ذهبت إلى رقّة العجيلي، لأتقبّل العزاء به، فوجدت مدينة تتشح بالحداد: الجميع في محزنة عظيمة، وصوت قراءة القرآن في كلّ بيت، والمتاجر مغلقة حدادا، والأسى يملأ المدينة، عشرات الآلاف من المعزّين، ومئات القصص تسمعها من الألسنة، فعدْتُ إلى المنزل، وأخرجت الصور العائلية التي تجمعنا معاً، وأخذت أتذكّر مناسبات اجتماعية ضمّتنا، وأحاديث، وأسماراً، وقصصاً، وطرفاً، وضحكات.
وحين مضيت في اليوم التالي إلى دارته المعروفة في المدينة كمثل نهر الفرات، أو باب بغداد، خيّل إليَّ أنني سأجده جالساً حيث كانت زين تعابثه، وتناديه (دِدِّي) تقصد (جدّي)، وتستند إليه، وهو في حالة صحّيّة رقيقة، فلا يقبل أن يُبْعدها عنه أحد.
ليس سهلاً أن نتقبّل الفقد الكبير يا أبانا يا أبا بشر! وجدتُ حالي كحال فلاح بسيط سمعت قصته من صيدلاني رقّيّ صديق، فقد غلّف الفلاح وصفةً كتبها له العجيليّ بالجلاتين اللاصق، وجاء بها مراراً إلى الصيدلانيّ، يطلب دواء مسكّناً كُتب اسمه فيها، وهو يؤمن بأنَّ هذا الدواء يعالج آلامه جميعها، ولا علاج سواه! كيف يمكن لهذا الرجل أن يقتنع برحيلك؟ وكيف لي أن أرى مقعدك شاغراً! لم أستطع حين زرت الدار أن أدخل غرفة المكتب، ولم أجرؤ على النظر، فالفراغ شاسع، كمثل سهول الرقة الخضراء، وكمثل قلبك الذي كان يتسع للجميع.
أيّ فقيد أنت ! أيّ دبلوماسيّ! وأيّ أديب، وأيّ طبيب! ما زلت أذكر حين مرضتُ مرّة وأنا في إحدى زياراتي إلى الرقة، كيف عاينتني، فتعافيت من الفرح، والدهشة قبل أن أتناول الدواء! لقد أحسست أنّي بين يدي ابن النفيس، أو ابن سينا. نعم لقد أدركت لماذا احتفظ القرويّ بوصفتك! إلى رحمة الله، أيها الحبيب، وأيها الصديق، وأيها الطبيب، والأديب.
وداعاً أيها السيّد الدكتور!
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved