الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 1st August,2005 العدد : 117

الأثنين 26 ,جمادى الثانية 1426

وعي المقارنة وجدل التفاضل بين الأنواع الأدبية
د.صالح زيَّاد*
تشكلت رؤية النقد العربي الحديث للأنواع في أولياته نهاية القرن التاسع عشر من خلال استحضار السياق الثقافي العربي القديم الذي يغلب عليه تبجيل الشعر والاحتفاء به تلقائياً، بما يجعل أفضليته أشبه بمسلمة نظرية وذوقية لا تكتسحها أسئلة الأنواع والوظيفة والقيمة والتأريخ، وكان تأليف دراسة أدبية يعني غالباً القسمة الثنائية بين الشعر والنثر ( أو الكتابة)، ليحتل الشعر والشعراء المساحة الكبرى، على نحو ما نجد لدى حسين المرصفي (؟ 1889م) في (الوسيلة الأدبية)، وامتد هذا المنظور إلى كتب التاريخ الأدبي عند جورجي زيدان (1861 1914م) ومصطفى صادق الرافعي (1880 1937م) وطه حسين (1889 1973م) وشوقي ضيف وغيرهم، حيث لا تترك هيمنة الشعر على كتبهم إلا مساحة ضيقة للخطابة أو للكتابة مع تخلّ، يكاد يكون تاماً، عن السرد والقصص.. كما امتد إلى الكتب المؤلفة لطلاب المدارس وهيمن على الأطروحات والرسائل الجامعية المختصة في الأدب.
وبالرغم من ذلك، فإن المدقق في هذا النقد سيكتشف تبلور وعي الأنواع وجدل تفاضلها وتراتبها منذ أولياته، وبشكل ينقض ما يبدو أنه نقص أو جمود في وعي هذا النقد.. فهناك كتابات نقدية صدرت من منظور المقارنة بين الأدب العربي والآداب الغربية، وهو منظور فتح وعيها من زاوية الوظيفة أو التاريخ أو القيمة والذوق على ضيق الشعر العربي ومحدوديته أمام الأغراض المدنية والإنسانية والاجتماعية، وعلى تكراريته الشكلية والموضوعية التي بدت لهذا الوعي مملة ومضجرة، بالقدر نفسه الذي أدرك معه أصحابها مناخ الاستبداد والقيود التي يتصل الشعر العربي بها، وظيفة وشكلاً وموضوعاً، اتصال السبب بالمسبب. وقد أفضت المقارنة في هذه الكتابات، لدى أصحابها، إلى تراتب للأنواع الأدبية، أخذت الأفضلية فيه حيناً القصة وحيناً التمثيل، ولم يقف الأمر في الرؤية للشعر على اكتشاف نقائصه من وجهة الشكل أو المضمون أو الوظيفة، بل فتحت تلك الرؤية الباب إلى تجديده تجديداً يتلافى ضعفه ويوجهه وجهة ذات قيمة أصبح ناتجها نوعاً شعرياً يتنزل حيناً من الشعر التقليدي وحيناً من الوجداني وحيناً من الواقعي، منزلة الأفضل والأجدر في نوع من الجدل النقدي داخل رتبة الشعر نفسها.
فالمقارنة التي يعقدها نجيب الحداد (1867 1899م) بين الشعر العربي والغربي في اللفظ، والقافية، والمعنى، تكشف عن مقدار القيد اللفظي في الوزن والقافية الذي لزمه الشعر العربي، فهو يشرح طريقة الوزن في الشعر الغربي التي جعلته سهلاً، وأباحت للشاعر أن يقدم ويؤخر في ألفاظ البيت الشعري ما شاء، ويضع في أثنائه اللفظة التي يريدها ولا يختل معه الوزن.. كما يوضح طريقة القافية في الشعر الغربي وأنها لا تلزم في أكثر من بيتين، ومع ذلك فقد برم بها كثير من شعرائهم حتى تخلص بعضهم منها، فلم يتقيّدوا بغير الوزن، ويمثّل لذلك بشعر شكسبير المسرحي، ويضيف إلى ذلك أنهم ينظمون المقطوعة الواحدة من الشعر على عدة أوزان مختلفة.
ويذهب الحداد إلى أن ما يميز الشعر الغربي من جهة المعنى هو التزام الحقائق التزاماً شديداً، والبعد عن المبالغة والإطراء والفخر.. ويذكر أن مما انفردوا به وضع الروايات التمثيلية شعراً، وأن ذلك مكّنهم من التحليل والتطويل، وإظهار شخصيات عدة، وصور متباينة من العادات والأخلاق والأشخاص.
وتبدو عيوب الشعر العربي وضيق أفقه لدى روحي الخالدي (1864 1913م) من خلال كشفه عن مذهب فيكتور هوجو، وهو كشف يقدم صورة مغايرة لصورة الشاعر العربي القديم، ويعبّر عن توق الخالدي للتحرر وتوسيع آفاق الأدب العربي باطلاعه على أنواع وصيغ وموضوعات عديدة تكفل نقض التراتب التقليدي الذي يبدو أن الخالدي يعيده إلى أفضلية اللفظ على المعنى في التراث العربي، ومن ثم هيمنة الشعر، ولهذا يلح على اشتمال مفهوم الأدب على فنون الشعر والأغاني والروايات والقصص وضروب الأمثال والحكم والنوادر والحكايات والمقامات والتاريخ والسياسة والرحلة وغير ذلك، ويقرر أن الأصل في الكلام للمعاني لا للألفاظ. ويبدو عرض الخالدي للطريقة الرومانتيكية كاشفاً عن رغبته في تعدد الأنواع وتداخلها وتوسيع الصيغ والأشكال بما يضمن الانعتاق من القيود والحدود التي لا ينفك تراتب الأنواع عن وعيها، إذ يقول:
(فالطريقة الرومانية = الرومانتيكية) وسّعت أولاً دائرة الأدب أو بالحريّ نقلت هذه الدائرة من مركزها لمركز آخر، ثم مزجت أساليب الفنون الأدبية من تراجيديا وكوميديا بعضها ببعض، فنشأ عن ذلك تشويش في بادئ الأمر، ثم ظهر من هذا التشويش ترتيب جديد، وجاء الأدباء بشعر موسيقي وأدب مبهج وتاريخ حي، فالطريقة الرومانية أزالت تلك الأساليب المعينة المحددة التي من شأنها أن تمنع الشاعر من أن يتصرف فيها بفكره واختياره، كما أنها أزالت عن السبك والإنشاء هاتيك العوائد الاستبدادية التي من خصائصها أن تصفي إلهامات الشاعر وترفع منها الغرابة، فبتغييرها أساليب الفنون والقواعد والذوق واللغة والعروض وضعت الأدب في قالب غير معين وساقت أدباء العصر الجديد للتحري بكل حرية عن أساليب وقواعد وفنون جديدة ).
وقد غذا سليمان البستاني (1856 1925م) هذا الوعي المنفتح على أنواع أدبية مختلفة عن الأدب العربي، بترجمته وتقديمه لإلياذة هوميروس، فهو يقارن الأدب العربي، في مقدمته للإلياذة، بآداب الغربيين، فيذكر أن العرب قسَّموا الشعر إلى أبواب منها الغزل والمديح والهجاء والرثاء إلى نحو ذلك، ويقرر أن مثل ذلك موجود في شعر جميع الأمم، ولكن الإفرنج يحصرون أبواب الشعر جميعاً في بابين: الشعر القصصي (إبيك) والشعر الموسيقي (ليريك)، ويوضح الفرق بينهما من حيث إن الشاعر القصصي يعبّر عن شعائر غيره والشاعر الموسيقي إنما يعبّر عن شعائر نفسه، ويجعل بين هذين القسمين ما يسمونه (دراما) التي يستحسن تسميتها بالشعر التمثيلي.
وإشارة البستاني إلى أن أقسام الشعر العربي موجودة في شعر جميع الأمم، وإلمامه بعد ذلك بأقسام الشعر القصصية والغنائية والدرامية، ينقض خصوصية الشعر العربي المتوهمة، ويحل محلها الأجناس النوعية الكبرى التي يندرج الشعر العربي، بوصفه جزءاً لا كلاً، في أحدها، بما يشرع أمام شهية البستاني إلى قصصية الإلياذة مساحة لا يحتكرها تراتب مسبق يقضي على فضل القصة ومشروعيتها الأدبية.
أما أحمد ضيف (1880 1945م) فقد رأى أن الشعر العربي لم يتطور تطوراً حقيقياً، وأن القديم والحديث فيه من نوع واحد، خصوصاً أن الأدباء والنقاد حددوا الموضوعات وقسموها تقسيماً نهائياً، ووضعوا القواعد لمن يأتي بعدهم، وحصروا أنواع الفكر والخيال فيما فكر وتخيَّل القدماء.. وهو يقسم الأدب (أو ما يطلق عليه البلاغة) إلى قسمين، يطلق على أولهما اسم ( البلاغة الوجدانية ) ويطلق على الآخر ( البلاغة الاجتماعية ).. ويقرر أن اللغة العربية تكاد تكون خالية من هذا النوع، لأنه تحليل للنفوس، وتحليل نفس من النفوس لا يكون ولا يمكن أن يكون إلا في القصص الطويلة التامة، والشعر العربي لا يعرف القصص الطوال، ويقطع بتفضيل (الأدب الاجتماعي) الذي يدل تمثيله له، بهوميروس وكورني وراسين وموليير، على عدم تفريقه في هذا الفضل بين الصيغتين القصصية والتمثيلية منه.
وتنبني رتب الأنواع الأدبية، في مقارنة قسطاكي الحمصي (1858 1941م) بين الأدب العربي والآداب الغربية، على أطوار المناخ الاجتماعي والسياسي، فهو يقرر تأخر الشعر العربي عن المقام السامي، وافتقاده للنوع القصصي والتمثيلي، كما يقرر افتقاد الأدب العربي لفن الروايات، ويعيد ذلك إلى مناخ الاستبداد وانعدام الحرية وتخلف العمران، وإلى وحدة الموضوع وقيد القافية. ويرى أن (أساس فن الروايات هو (المراقبة) أي مراقبة المؤلف أخلاق البشر... ولا سبيل لإدراك هذا الغرض، إلا بالمصاحبة والاجتماع والمعاشرة مع مختلف الطبقات المتمدنة، ولا يتيسر ذلك إلا في الأمصار التي استبحر فيها العمران والترف والغنى وسائر أسباب اللهو والسرور، وتوفرت فيها الاجتماعات والمحافل ومجامع العلم والشعر وسائر الفنون البديعة، وهذا كله يندر أن يجتمع في غير العواصم العظيمة التي هي دور الممالك والجمهوريات).. ويتساءل من أين للغة العربية مثل ذلك، نافياً أن يكون قد توافر لعصورها ما يبيح من الوصف والتعبير ما تنمو به القصص أو التمثيل على تلك الصفة الأوروبية.
هذه الوجهة المقارنة في النظر إلى الأدب العربي أدخلت إلى الوعي النقدي القصة والرواية والتمثيل من حيث هي أنواع ذات قيمة أدبية استبدلت بالقسمة الأدبية الغالبة على المنظور العربي للأدب إلى (شعر) و(نثر) قسمة ثلاثية إلى القصصية والغنائية والتمثيلية.. وهي القسمة التي لم تعد دلالة النثر، بموجبها، ناتجة عن قياسه على الشعر (النظم) ليبدو النثر على هامش الحد والوظيفة اللذين يغدو تعينهما في الشعر خصوصاً دالاً على علو رتبته على النثر.. كما أدخلت إلى النقد العربي الحديث قسمة الشعر إلى أنواع (أي صيغ وأشكال) لا إلى أغراض عبر الوعي بإمكانية انزياح الخطاب عن ذات المتكلم (الغنائية) إلى المجتمع وإلى الآخر بموضَعَة الشعر سردياً أو مسرحياً.


Zayyad62@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved