الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 1st August,2005 العدد : 117

الأثنين 26 ,جمادى الثانية 1426

استراحة داخل صومعة الفكر
حروف من لغة الشمس
عبد الله بن سليم الرشيد
سعد البواردي

لغة الشمس كما ندريها ونلمسها بيضاء متوهجة يسكن النور إن لم أقل النار مقرها وقرارها.. فهي شحنة من الضياء ترسله أشعة مشعة تطوي بها أجنحة الظلام.. وتكشف بها مواطن العتمة والديجور.
تلك هي الشمس الذي تشرق من فضاءاتها البعيدة علينا ناشرة الدفء.. مذيبة ما علق بنا من رعشة خريفية تهتز منها أوصالنا.. شمس شاعرنا الرشيد قد تكون شمس وضوح في الرؤية تستمد طاقتها من كتلة شعورية مخترمة في ذهنه.. مختزنة في رأسه.. هل بهذا التصور أكون أصبت كبد الحقيقة؟!
(شظايا) أطلقها من فمه شعراً آملاً أن لا يكون لها وقع شظايا القنابل التي تملأ سمعنا دويا.. وحياتنا تمزيقاً:
شعر صهيل البقايا
من مهرة في الحنايا
أسررته فتمادى
يدق باب الخفايا..
هل سيفتح أمام دقة بوابة المجهول كما ذكر؟ لا أظن. لقد تركنا معه في حيرة بلهاء..
بدا لكم منه شيء
وفي الزوايا خبايا
ما كان محض حروف!
بل من فؤادي شظايا
لا شيء.. مجرد شظايا متناثرة وغامضة.. من أين..؟ ولماذا؟.. الشظايا يا صديقي لا تحتمل الاحتفاظ بها.. حسنا تركتنا بعيداً بعيداً... أما أنت فقد اختزلتها.. واختزنتها.. واحتفظت بها.. وعليك أن تتحمل وحدك وزر اختيارها... ومن شظاياه إلى رجوعه إلى لغة القلب..
أوصدت بابي.. واعتكفت مخضبا
لغة الحديث بلهجة التجاهلِ
وهجرت أزمنة القصائد راغبا
حتى إذا اشتعلت عيون فواصلي
لقد دعاه شوقه القديم لأوبة ثانية بعد أن تهيأ لشدوه مساحة من الانطلاق في ظل إغلاق بابه.. الانطلاق والإغلاق لا يتفقان.. ومع هذا يدفعنا الفضول لمعرفة الآتي:
وسمعت وقع خطو القوافي في دمي
قدحت على شفتي تأوه ثأكل
راجعتها.. وأنا عزيز قادر
تتكسر الأمواج دون سواحلي
لماذا السماع وحده يا شاعرنا.. الإيقاع خارج دائرة الصمت والعزلة أجدى وأجمل.. حيرتنا فيك أكبر لأنك القادر على تجاوز حدود صمتك كما تقول.. وبقيت مراجعتها مجرد خطو تقدم على الشفتين دون تبرمهما.. وتلك عقدة.. شاعرنا لديه وقت للسؤال: هذا مشجع؛ فهل لديه وقت لتلقي الجواب؟ هذا ما أطمع فيه..
لماذا يجرون ناصية الشعر للنقطة المعتمة؟
لماذا يريدون للقول ألا يحن؟
صحيح (ألا) أن لا.. ثم يسترسل في أسئلة:
وللروح أن لا تئن..؟
وللرأس أن يقبل الصفعة المؤلمة؟
لماذا؟ ولماذا؟ ركام من الأسئلة ضاق بها فمه فأطلقها شظايا متناثرة وثائرة.. من حقها البوح بها دون مواربة لأنه يعاني كشاعر:
لماذا غدا الشعر ولولة النائحات؟
وفأفأة الطفل.. والتمتمة؟
وحتام نهتك عرض الكلام
لتنهشه شفة مجرمة؟
أقف للحظة حتى مفردة الاستفهام (حتام).. وأخالها كالتالي: (حتى م) هكذا أتصور..
سؤال وألف سؤال
وما تم أجوبة مفحمة
بهذه القفلة أنهى أسئلته في تلميح دون تصريح.. إنه لا يعني إنساناً بعينه ولا مجتمعاً بذاته.. أنه يحاكم بلغة المحتج نمطاً بشرياً استعلائياً.. استغلالياً.. مفترساً (لا يعجبه العجب ولا الصيام في رجب).. الجواب نعم عالمنا الواسع مسكون بوحشته وساديته.. يستغرق منك هذه التساؤلات وأكثر... شاعرنا الرشيد يصبّ جامّ غضبه على أدعياء الشعر العالقين بأهدابه لا بأهدافه..
ما الذي أعطاكم الشعر فجئتم تطلبونه؟
أي شيء يعرف الشاعر.. لستم تعرفونه..
إنه يهوى وكل منكم يهوى وإن أخفى شجونه
ويعرفهم بالشعر الذي لا يعرفونه قائلاً:
إنما الشعر الحقيقي الذي قد تدركونه
هو شعر في حناياكم.. ألستم تسمعونه؟
يجيب عن تساؤله شاعر قديم قدير الدلالة:
الشعر صعب وطويل سلمه
إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه
زالت به إلى الحضيض قدمه
ناهيك إذا ما كانت الإشكالية ادعاءً، وليس ضعفاً. يعرفنا بنفسه.. هذا أنا:
مسافر في ضمير الكون ما تعبت
رجلاي، أرتحل الأمجاد والظفرا
حرّ على منكب الجوزاء متكئي
أكاد أقبض أحداق الدجى زمراً
لماذا القبض وحده.؟ القبض لا يكفي.. حسناً لو أستبدل مفردة (أُطبق) بمفردة (أقبض) وكلتاهما جائزة.. ويمضي في اعتزازه وفي تعريفنا بذاته:
هذا أنا في يدي شمس وفوق فمي
مجرة.. وفؤادي ينضح الدررا
كثيرة عليك يا صديقي هذه الأعباء التي لا تقوى عليها يدك.. ولا فمك.. ولا فؤادك.. من تواضع لله رفعه...
نتجاوز معاً أوراق الذات لأني أستطيب التحدث عنها لأنها ذاتية.. وكفى.. المجاذبة الشعرية أدعى إلى التوقف:
وقفت أمام حائط نخل مهمل.. بماذا أوحى به ذلك المشهد؟!
دموع الأمس تفتح دفتريها
فينبض في الأصائل دفتراها
لها وله تسرب في الليالي
وهز شغافها حتى يراها
وفي توصيف واقعي لهمهمة النخلة ووجدها:
وللنخلات همهمة ووجد
بأكسية المريضة دثراها
تحن إلى ترنمك القوافي
ويحلم بالمسامي أخضراها
ويراجع نفسه هذه المرة في حنين من شدة الحب لماضيه.. لماضي نخلته المهملة..
ألم تحن إلى سجع القماري
على السعفات تدهش من يراها؟
ألم تحن إلى سكن وماء
إلى رطب جني في ذراها؟
بلى.. إن حنينها يوم أن كانت عامرة أروع وأشد وجداً من يوم أن باتت غامرة.. الإهمال يُطعم صاحبه الحزن أكان إنساناً أم نباتاً أم حيواناً.. لأنه بداية النهاية.. شاعرنا لأمسه يحن.. ولغده يغني.. ويطرح المزيد من التساؤلات..
يا غدي ما للغد المأمول لا يطرق بابي؟
ولقد أعددت للقيا أفانين انسكابي
أحضن الحلم فتغشاني ارتعاشات الضباب
وفي حنينه الغنائي تبدو الملامح الجمالية أكبر وأكثر، وأصدق توصيفاً وتوظيفا للمفردات:
يا غديرا ماؤه سكب على جدب الضلوعِ
أنا ما بين مسير. وافتكار. ورجوعِ
حائر.. والحيرة الرعناء تقتات دموعي
وشاعرنا يخرج إلى الداخل.. في رسمه الكاريكاتوري!
كنت في غرفتي ألملم أحلامي
وأهتز للصباح الجديد
وحفيف النسيم خلف جداري
ثرثرات النساء ليلة عيد
إلى أن يقول:
لم أقل للظلام سحقاً فقد أبصر
ت في عينه لهيب الوعيد
كان حولي في كل ركن على الأ
رض وفي السقف كالنقاط السود
موغلاً في دمي يثبط آمالي
فيا بهجة المشارق عودي
وفتحتُ الباب العتيق فصكت
جبهتي قبضة الظلام القعيد
عجباً أين ذلك الصبح؟ هل غا
لته غول تمشي بخطو وئيد
غالته.. مؤنثة.. والغول مذكر.. ألا يرى معي شاعرنا أن كلمة.. أرداه.. أنسب؟ ليأتي على هذا النحو:
عجباً أين ذلك الصبح؟ هل
أرداه غول يمشي بخطو وئيد
أغلب ما في شعر شاعرنا الرشيد يستمد طاقته من الشمس.. النور.. الشظايا.. الوهج.. الاحتراق.. بماذا أوحى به توهجه هذه المرة؟
نادمت حرفي فارتمى متموجا
بين السطور وفي يديه لوائي
ونفضت فيه توهجي فجرى ولم
تظفر بمئزره يد الاعياء
لقد دعا شاعرنا حروفه فجاءت إليه مسرعة طيعة تتراقص فوق صفحاتها كما تتراقص طيور البحر فوق موجاته.. حرفه يخصره بحموة قيظه مسلماً جسده إلى الدفء.. وقلمه لأن يسيل مداده في نشوة فرح واعتزاز:
أنا واحد من أمة لكنني
متوحد بمواجدي وغنائي
وأجود بالدمع الكثيف وليس لي
وجع.. ولكن داء خلي دائي
هكذا تأتي المشاركة إحساساً بألم الآخرين ووجعهم.. عن هذا المعني يقول شاعرنا القديم:
فلا نزلت عليّ ولا بأرضي
سحائب ليس تنتظم البلادا
أكبر فيك هذه الدلالة الشعورية.. وهذا المعنى الذي يعمق روح المشاركة الوجدانية الإنسانية.. إنه يعيش بعقيلة الواثق في عمره وفي أمره، يبصر الحياة ربيعاً حتى وقد خط المشيب شعيرات رأسه:
لم يرعني المشيب أن بياض الشيب
نور إلى الفؤاد تهدّى
إن سحر الغروب يفضل أحيانا
ويلقي في النفس طيبا.. وندا
نظرة تفاؤلية ما أحوجنا إليها ونحن نجتاز مرحلة الطفولة إلى مرحلة الرجولة.. ومرحلة الرجولة إلى مرحلة الكهولة.. العمر ربيع يورق العقل فيه زهرا وخبرة.. وحكمة بعد مرحلة الستين.
يغالب العطش أحيانا ويبحث عن قطر يرطب به شفتيه.. ويبل به ظمأه.. وهل أجدى من قطر الندى الشعوري لقتل الظمأ...
تعطش الأحرف في فيّ فتستسقي دموعي
أحرف ظمأي.. بها لهفة مكلوم وجيع
سربت في قاحل الذهن فهمّت بالرجوع
نزح الآتي نداها فتوارت بالصقيع
حتى مع هذا هي تذيل الصقيع متى كانت دافئة.. ودافقة.. لا أحد يلوم شاعرنا على ظمأ حروفه العطشى حين لا تجد الماء..
لا تلمني ما صمتّ اليوم فالصمت ربيعي
أنا شمس إن أغب ليلا فلا تندب سطوعي
احفر بريشة قلم مشاعرك المعطاءة البناء بئر ماء تروي به عطشك وعطش الآخرين.. تلك هي قمة العطاء.. للقلب وقائع ومواقع تحدث عنها شاعرنا الرشيد بكل عفوية وطموح:
أبني على قمم المنى بيتاً إلى
شرفاته البيضاء تهفو الأنجم
وأهيم.. والحلم اللذيذ مشاعر
شتى ينوء بها حنين مبهم
وأغيب في هجسي.. كأني لم أكن
شيئاً.. وأفائي تضيء وتظلم
لِمَ هذا التراجع يا صاحبي وقصيدتك العلوية تسري ولا تتكلم؟ هل علق بها الصمم.. أنطقها أو احفر لها قبراً إذا كانت عاجزة بعجزك أنت.. الحب يا صديقي لا يسمح بالإغفاءة؛ إنه يهرب من الشباك..
أغفو على لقياه غفوة ساذج
طرب.. وأوشك أن أطير فأحجم
فيلوح لي خلف السجون مسلط
عات.. تدمدم في رؤاه جهنم
ما دمت تعترف بالخطر.. إذاً لماذا غفوت؟ نريدها إضاءة كقصيدتك تطرد الملل والجهل:
أرسلت طرفي خلف النجم إذ غربا
فعاد يحتضن الأقمار والشهبا
ولم أبال.. وقد أرسلته كلفا
والأفق يمطر ليلا ينبت التعبا
لا أريد لفكرك أن يرهق.. ولا لشعرك أن يزهق..
لم أرهق الفكر فيما رمت مطلبه
فربّ فكر أحال العقل مضطربا
لو أدرك النهر أن البحر مبتلع
أمواهه.. ما جرى يوما ولا عذبا
أمواهه هنا غير صحيحة.. مياهه هي الأصح.. إذا كان لكل كسر جبر.. ولكل دمعة كف تكفكف وتجفف مجراها فإن لكل انكسار التئاماً متى كانت إرادة السلامة قائمة..
طفت الحياة وملء أوردتي
أمل لديه يرتخي أملي
أرجو بها شيئاً.. ويفاجئني
شيء يبعثر رعشة الحلم
إلى أن يقول:
كم قلت للآمال لا تهني
فاجتثها يأس فلم تقم
ودعوت: يا أشواق فانطلقي
بالثائق المشغوف للقمم
فارتدت الأصداء ساخرة
يا عاقد الآمال بالصنم
لا عليك يا صديقي الشاعر.. شعرك نبض حياة.. ومشاعرك صوت يقظة.. ما آخذه عليك أنك تحلق في بعض أحلامك ثم تتراجع دون عذر لأنك تملك جناحين قادرين على الارتفاع لا على الارتداد.. أحيي فيك قدرتك على طرح الجميل.. رغم رمادية بعض الصور الزاهية التي لا تحتمل السواد.. حروف شمسك يجب أن تكون بيضاء.


ص. ب 231185 الرمز 11321
فاكس: 2053338

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved